الفسادُ المجتمعي

آراء 2021/01/03
...

 د.حسن الياسري
كنا قد تحدثنا في الجزء الأول عن الأسباب الكامنة وراء الفساد المستشري في أوساط المجتمع، والذي أطلقنا عليه (الفساد المجتمعي)، ولقد ذكرنا أسباباً ثلاثة هي: نمط العلاقات والأعراف بين أفراد المجتمع، وضعف الوعي الاجتماعي، والشعور بالمظلومية والانتقاص، وسنتواصل في هذا الجزء في عرض الأسباب المتبقية، وهي :
4 - ضعفُ أو انعدامُ الولاء الوطني:
 وفي كلامٍ ذي صلةٍ بما تقدَّم يمكن القول إنَّ ضعفَ أو انعدامَ الولاء الوطني والإخلاص للوطن سيهيئ الأرضية الخصبة للفساد من دون أدنى شكٍ، إذ ستُغلَّب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، ويتجلَّى ذلك بوضوحٍ بما تسمعونه وتشاهدونه في بلدنا من سلوكياتٍ ومواقفَ وأقوالٍ، مثل (هي خربانة، بقت علينا، صاير براسنا وطني، شنو أنت رايد تصلح الوضع..) ونحو ذلك من أقوالٍ كلها تدلُّ على الفساد، وإنَّ أغلب مَنْ يؤمنُ بها ويقولها هم الفاسدون، فهم يودُّون لو أنَّ الجميع أصبح فاسداً مثلهم، ولذا هم يشعرون بالسخط من وجود أناسٍ نزيهين ووطنيين؛ فيتفوَّهون بتلك الأقوال المحبطة ليخلقوا ثقافةً اجتماعيةً جديدةً قائمةً على الفساد. ثم يأتي الإعلامُ المغرضُ ليسهم بشكلٍ فعالٍ في نشر هذه الثقافة الفاسدة، ما دام المتورطون في الفساد موجودين في أجهزة الإعلام وغيرها.
وعليه كلما ازدادَ حبُّ الوطن والشعور بالانتماء إليه كلما أسهمَ ذلك في الحدِّ من مظاهر الفساد، والعكس 
بالعكس.
5 - تدنِّي المستوى التعليمي والثقافي والقانوني :
 إذا افتقر المجتمع إلى التعليم، والثقافة عموماً والثقافة القانونية على وجه الخصوص، فإنَّ ذلك سيجعله فريسةً للفساد؛ إذ سيقوم الموظف المعني باستغلال فرصة الجهل بالإجراءات الإدارية من قبل المواطنين، فيقوم بتعقيد هذه الاجراءات بغية دفع المواطن لتقديم الرشوة لإنجاز المعاملة، كما تلاحظون ذلك في بعض المؤسسات .
6 - ضعفُ الوازعِ الديني والأخلاقي :
 لا ريب في أنَّ الوازع الديني هو الرادعُ الأقوى والأجدى من جميع العقوبات الوضعية، إذْ يمثِّل رقابةً ذاتيةً على سلوك الأفراد، ويوجههُ نحو الخلق الحسن والسلوك القويم، ويبعدهُ من المحرَّمات، مثل الرشوة وغيرها، ولقد أكَّدت الشريعة الاسلامية وجوب أداء الأمانة “ إنَّ الله يأمركم أنْ تؤدوا الأمانات إلى أهلها “، وحرَّمت الخيانة وأكل المال بالباطل “ ولا تأكلوا أموالكم بينكم 
بالباطل “ .
وكذا منعت إعطاء الهدية لذوي الولايات والوظائف إذا تمَّ دفعها لأجل مناصبهم ووظائفهم، وغلَّظت شديداً على تحريم الرشوة “ لعنَ اللهُ الراشي والمرتشي”، وفي حديثٍ آخر “ لعنَ رسولُ اللهِ الراشي والمرتشي”. وهنا يأتي الفاسدون ليؤطروا الرشوة بإطارٍ مشروعٍ، هو الهدية، لا سيما أنَّ الشريعة حبَّبت الهدية بين الناس “ تهَادَوا تَحابُّوا، تَهادوا فإنها تُذهبُ 
بالضغائنِ”. 
الكافي ومَنْ لا يحضرهُ الفقيه. وفي مسند أحمد والترمذي “ تهَادَوا فإنَّ الهديةَ تُذهبُ وَغرَ الصدرِ”. 
والفرقُ واضحٌ بين الرشوة والهدية، وخيرُ معيارٍ لتوضيح الفرق بينهما ما ورد على لسان الرسول الأعظم (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) في الحديث الآتي الوارد في الصحاح :
(اسْتَعْمَلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ : هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ :” فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ؟ “. ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ : “ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي. أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ “. ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ، يَقُولُ: “ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ “. بَصْرَ عَيْنِي، وَسَمْعَ
 أُذُنِي).
 وبناءً على ما تقدَّم يمكن القول إنَّ نظرة المجتمع يمكن أنْ تتغيَّر حيال بعض مظاهر وأفعال الفساد، مثل تعاطي الرشوة، فبعد أنْ كانت جريمةً، والمرتشي مجرماً يتبرأُ الناس منه، أصبح الأفراد لا يشعرون بأدنى حرجٍ من دفعها، والأدهى أنهم قد لا ينظرون بسوءٍ إلى المرتشي، ويبدؤون بتأطيرها أطراً مشروعةً، مثل ( إكرامية، أتعاب، قضاء حاجة، تيسير أمور .. الخ).
7 - الإعلامُ الفاسد :
 بلا أدنى ريبٍ يعدُّ الإعلامُ الفاسد سبباً مهماً من أسباب تفشِّي الفساد في أوساط المجتمع. وسنفصلُ القول في هذا الموضوع لاحقاً إن شاء الله .