ثنائيَّة المركز والهامش وتبدياتها الساخرة في مسرحيَّة «أوفر بروفة}

ثقافة 2021/01/04
...

د. سعد عزيز عبد الصاحب
 
يعمل المخرج المؤلف (علي الشيباني) على خلخلة البنيات السائدة والمقعدة والقارة في الاشكال والمضامين الدرامية التي يتناولها في عروضه، ويتكئ فنيا على سمات ومبادئ ما بعد الحداثة في تجلياته المسرحية، تلك السمات التي في جوهرها تنطلق من تفكيك المركز ومعادله السلطة، منفتحة على الهوامش القصية وتلاوينها لتجعل منها مركزا في البنية الجديدة، ليتشكل عرض (اوفر بروفة) بادوات تمثيلية ولاعبين هم هوامش في مجتمعهم وفي فن المسرح بالذات
فأنطولوجيا المسرح المعاصر لم تتناول شريحة المكفوفين في تجلياتها المسرحية وشواغلها الفنية؛ لان المراكز استبعدت دوما ذوي الاعاقة ومنعت انخراطهم في الحقل المسرحي وبقية الفنون لانهم يمثلون جزءا من الهوامش الثاوية والتي لا نفع منها كوسائل انتاج ابداعية، فضلا عن كون العمل معهم صعبا ومرهقا ويحتاج الى صبر منقطع النظير ومجهودات استثنائية لايصال مركب العرض الى شاطئ النجاح، ركب الشيباني هذا المركب الصعب وخاض غمار التجربة بكل مسراتها واوجاعها غير مبالٍ او ناكص او موارب، اتخذ نص العرض الذي دونه مع (لؤي زهرة) شكلا مسرحيا خالصا يتناص ويتعالق مع نصوص أخرى عديدة شعرية وروائية ومسرحية تنفتح على مدونات معين بسيسو ورسول حمزاتوف وتشيخوف ومظفر النواب وملحمة جلجامش وشيء من النكتة الشعبية والوقائع اليومية الحاضرة. 
مدونة تتوغل وتتوسل بأسلوب (الميتا دراما) المعاصر بمضمون خطاب انساني شامل، ينفتح على شواغل المسرحة بتفتيت المركز الدرامي الارسطي التقليدي الذي يتشكل من خلال المخطط (الفريتاجي) المعروف ليحوله الشيباني في العرض الى رقعة حجاج لعبية تنتمي في مرجعياتها الفنية لمسرح الاحتجاج والتحريض، ولكن بأسلوب آخر يختلف عن الأسلوب الخطابي التقليدي المباشر في المسرح السياسي معتمدا تكنيكات المسرح الملحمي البريشتي وثنائية الداخل والخارج، المظهر والجوهر لـ(بيراندللو)،إذ يرفض المخرج (مثله علي الشيباني) مجموعة من المكفوفين تحاول العمل في المسرح كونهم غير قادرين على تجسيد المهارات الأدائية والرؤية الإخراجية إلا أنهم يصرون على العمل معه فيقبل بهم أخيرا شرط ان يكون هناك اختبار لهم عن طريق عمل «بروفة” ليكشف المخرج عن بيادق شطرنجية بيضاء جلست عليها مجموعة الممثلين المكفوفين، فهناك ممثل للملك وآخر للوزير وثالث للقلعة ورابع للفيل وخامس للجندي في ثنائية تبادلية عجيبة بين الممثلين وما يلعبون من أدوار، فتارة الممثل الكفيف يعرض الشخصية التي يمثلها ويقف منها موقفا نقديا لاذعا، وتارة أخرى يتماهى ويندمج معها،إذ لا فكاك منها، فالملك والوزير وحاشيتهما ظلوا يرزحون بأدائهم المندمج لإذكاء روح المؤامرة والتربّص بالبيادق
 الأخرى.
 عمل المخرج وبيادقه على تعرية السلطة ومركزيتها واظهار تقصيرها مع الشعب بواسطة التقانة الميتا درامية، اذ نشاهد احد الممثلين يرفض محتجا اداء دور الجندي؛ معلقا على ذلك بأن الجندي هو وقود المعارك وحطبها أبدا، مما يستفز المخرج لكي ينسب له دورا آخر، فالموقف النقدي يدخل كجزء اساسي في انتاج آلية كسر الايهام في الادائية التمثيلية، مما يضطر بعض الشخصيات المحتجة للخروج خارج اللعبة (الرقعة) وتوليد معنى تأويلي سياسي يصم كل من يبقى في اللعبة بأنه متآمر وخائن للشعب والوطن، وفي معادلة العمى والبصيرة تتقوض لعبة الشطرنج التي هي تكريس للمركزيات الكولونيالية بوصفها لعبة أنتجتها العقلية الغربية، واصبح حتى الاعمى يرى، وهي كناية عن ان الرؤية في البصيرة وليس البصر: هو الذي رأى.. وان المساحة المتاحة على الرقعة يمكن سبرها من دون قيادة وقسر.. إنها الحرية المشروطة بفهم الآخر واحترامه والتعاطي معه وإشراكه في كل شيء، وظف العرض روح السخرية المرة والنكتة داخل الملفوظ المسرحي، تلك الضحكات المكبوتة على نكات مسكوت عنها في زمن النظام السابق أطلق لها العنان في العرض فقد أعدم أحدهم، وكان قد ضرب أحدا نتيجة شجار بالحذاء على رأسه، فذهب المضروب لمقر الفرقة الحزبية قائلا: ضربني بالحذاء على رأسي الذي يحمل أفكار السيد الرئيس.. هنا ايضا فككت النكتة الآتية من الهوامش القصية السلطة ومركزيتها وجبروتها وادانتها ادانة ساخرة، او من خلال التصوير الكاريكاتوري الذي اعتمد التضخيم والتشبيه، ومنها عندما سأل المخرج احد الممثلين: اين كنت؟ قال: حماري مات بالجلطة.. فسأله احد الممثلين الذي بجانبه مستفهما: (شلون مات؟.. شنو تخرج من الجامعة مهندس وما حصل تعيين.. لو عنده فشل كلوي وراح للمستشفى، وكلوله انتظر لما يموت هذا المريض ويجي السره الك).. فالزمن المنقود داخل العرض منفتح على الماضي والحاضر والمستقبل، والدور التنويري للمسرح الذي عبر عنه العرض بأغنية في الختام تمجِّد الفن المسرحي وفضحه للفساد وإثارته للأسئلة الجوهرية الحاسمة في مصير الأمة
 والوطن.