محمد تركي النصار
وُلِد مارك ستراند عام 1934 في سمرسايد، جزيرة الأمير إدوارد، كندا وتوفي عام 2014، نشأ وترعرع في مدن عديدة في كندا والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية. درس الفن في مطلع شبابه ثم انتقل إلى كتابة الشعر. أصدر ما يزيد عن عشرين مجموعة شعرية، فضلا عن كتب في النقد الفني وأدب الأطفال والقصة القصيرة والترجمة، وحاز شعره على العديد من الجوائز الأدبية المهمة منها "بولينجن 1993" عن "المرفأ المظلم"، و"بولتزر 1999" عن "عاصفة ثلجية فريدة".
(آكل شعرا) لستراند من القصائد السريالية المميزة،إذ يتم رسم مشاهد القصيدة في مكتبة، اذ يظهر رجل يضايق أمينة المكتبة بشكل متكرر بمرحه ومفارقاته الشعرية.
يصف المتحدث في أبيات قصيرة متلاحقة حالته وهو يأكل الشعر، هذه الحالة الغريبة والغامضة سرعان ماتتحول لتعكس مجموعة من المتغيرات،إذ تظهر في القصيدة كلاب والمتحدث نفسه يتحول إلى كلب. الحبر يسيل على حنكه وهو في حالة سعادة غامرة من الصعب على الكلمات أن تصفها.
في أبيات القصيدة تصوير لسريالية المشهد لاظهار حالة شخص وهو يستجيب كليا لعاطفته وانفعالاته،إذ يتفاعل المتحدث وهو آكل الشعر مع أجواء عشقه لقراءة وكتابة الشعر التي تجعل منه إنسانا جديدا مختلفا ضمن مساحة التحول حين يصير كلبا يلعق يد أمينة المكتبة.
هنا نحن أمام عالمين وتجربتين مختلفتين إذ إن أمينة المكتبة لاعلاقة لها بعالم الشعر وقد لاتفهم أو تتذوق طبيعته الحلمية وقدرته على تغيير حواس وربما أفكار الإنسان عن العالم والأشياء.
وهنا حالة المقارنة المتضادة قوية جدا إذ إننا ازاء اختلاف واضح في النظر للاشياء، ويرسم ستراند ذلك بطريقة فيها من دهاء الخيال وسحر اللغة ما يجعل التحول من إنسان إلى كلب مشهدا مقنعا للقارئ.
تنقسم مقاطع القصيدة الستة إلى مجاميع من ثلاثة أبيات وهي لاتتبع أنموذجا وزنيا أو نظام تفعيلة محددا، أي إنها مكتوبة بأسلوب الشعر الحر، ولكن وبغض النظر عن الكيفية التي تبدو عليها فإن ذلك لايعني أنها من دون بناء محدد.
وتشيع في القصيدة عدة تقنيات أدبية تمثل نماذج لما يمكن أن نسميه أنصاف القوافي والأمثلة البارزة للايقاع الداخلي في مواقع متعددة من القصيدة، كذلك يستخدم الشاعر الصور الشعرية وتكرار الأصوات التي تبدأ بالحروف نفسها، وكذلك اعادة استخدام الكلمات في أبيات مختلفة. وعلى نطاق الصور الشعرية يضخ الشاعر مجموعة من الحواس فيها: سمعية، بصرية، الخ.
في المقطع الأول من (آكل شعرا) يبدأ المتحدث بالقول بشكل صريح بأنه يأكل الشعر:
يسيل الحبر من زوايا فمي.
أنا سعيدٌ جدًا
فأنا آكل شعرًا.
وهنا يريد المتحدث وهو آكل الشعر أن يقول لنا بأن الغبطة والسعادة التي يعيشها لايستطيع شخص آخر فهمها، فهي فكرة غريبة وغير قابلة للشرح، وبتصويره للسعادة بأنها شيء غريب يريد التأكيد على صعوبة مشاركة هذا الاحساس مع الآخرين كما أسلفت:
أمينة المكتبة لاتصدق ما تراه
عيناها حزينتان
وهي تمشي ويداها في جيب ثوبها.
واضحٌ جدًا هنا بأن أمينة المكتبة لاتنتمي لعالم شخص غريب هو آكل الشعر، وفي هذا التضاد الذكي يريد ستراند أن يعكس غربة الشاعر وصعوبة فهم عالمه من قبل آخرين حتى لو كانت أمينة مكتبة تبدو عيناها حزينتين لأسباب أخرى لاعلاقة لها بكل أجواء الحلم والقصائد وهذه المنظومة المثالية اذا جاز لي القول.
في المقطع الثالث يضمن الشاعر أبياتا أخرى، فالقصائد ذهبت الآن واستهلكها جميعا، وفي الوقت نفسه فإن ضوء اللحظة بدأ يخفت، هنا نحن بازاء أبيات ذات نهايات متوقفة حازمة وقوية، والسطر الثالث يمثل مفاجأة، إذ تظهر كلاب فجأة:
القصائد تلاشت
وخفت الضوء
ثمة كلاب تصعد سلالم الطابق السفلي.
هذه الكلاب يبدو أنها ظهرت من مكان غير معروف صاعدة السلالم، وهو لايراها لكنه يسمع نباحها، وسيقان هذه الكلاب تشتعل مثل الفرشاة، وأمينة المكتبة المصابة بالذهول بدأت تفقد السيطرة على نفسها، فهي عاجزة عن مجاراة المشهد الحاصل أمامها، هنا يحدث تحول في الهدوء والصمت والسلام النسبي الذي يفترض أنه يسود أجواء المكتبة:
محاجر أعينها تتقلَّب
وسيقانها الشقراء تشتعل مثل فرشاة.
أمينة المكتبة المغلوب على أمرها
تبدأ بضرب قدميها في الأرض وهي تبكي
هي لاتفهم لماذا
أزحف على ركبتي وألعق يدها
فتأخذ بالصراخ.
هنا نحن أزاء حالة تحول أخرى (الإنسان يتحول إلى كلب) بصور شعرية مؤثرة قوية في قدرتها على إقناع القارئ بما يحصل ضمن المشهد السريع.
وفي المقطعين الأخيرين يبقى الشاعر محافظا على بناء أبياته الشعرية القصيرة بنهايات منقطة في جو التبدل،إذ يختلط الواقعي الفيزياوي بالخيالي المجازي ويتماهيان بسرعة ممتعة لقارئ الشعر العاشق لذكاء العين السينمائية وسحرها المدهش:
أنا إنسان جديد
ازمجر عليها نابحا
لاهيا بمرح
في عتمة مغمورة برائحة الكتب.