رعد أطياف
يصعب التكلّم بشكل تفصيلي عن أسباب المعاناة. إن الأمر يشبه، إلى حدٍ ما، طب الأعصاب؛ فالعنوان الوظيفي لهذا التخصص يسمّى عادةِ بـ"الجملة العصبية". فالمعاناة، كمقاربة عامة، هي سلسلة هائلة من العوامل المنظورة وغير المنظورة، وهذه الأخيرة نعني بها العلل القريبة. لذا، يمكن القول بإيجاز:
إن من جملة الأعطاب النفسية التي تهيمن على سلامنا الداخلي هي العطش المحموم بامتلاك الأشياء، كما لو إنّنا نشرب من الماء المالح، ثمّة سعير يتخلل مسامات الكائن البشري ويلتهم راحة البال وينشّط أقصى درجات التوتر والعدائية، وهو الإحباط الذي ينتجه فشل الرغبة الجشعة والعطشى في تحقيق ذاتها، أي هويتها المُتَوَهَمَة. ومن علامات الإحباط البارزة هو الشعور بفقدان ما نملك؛ فبهذه الحالة ستَتَمَثّل في الذهن، وباللحظة نفسها، ثلاثة آلام ذهنية متعاقبة تربطها أواصر علاقة اعتمادية؛ ألم الرغبة الجشعة، ألم الفقدان، وبالنتيجة ألم الإحباط؛ أمتلك هذا الشيء، وباللحظة نفسها يداهمني شعور إني سأفقده في أي لحظة، وسأصاب بالإحباط، لكنّي أفعّل خاصية الاعتياد، لكي أتناسى هذا الجرح العميق فيغدو أمراً مألوفاً لهذه الهوية المٌزيَّفة. لكنّ التناسي لا يحل المشكلة بل يراكمها في الذاكرة، وبمنطق السبب والنتيجة، تظهر علامات الألم على شكل صور نفسية، كالتوتر والقلق، والغضب، والعدائية، ونحو ذلك. بعبارة أخرى: إن النبتة التي تجاهلناها تبرعمت بمرور الزمن وأينعت ثمارها وتدفّقت عصارتها في الفكر والسلوك. ثم نسأل: ما الذي يجعلني متوترًا ومأسورًا للضغط النفسي، ويصعب عليّ التعامل مع الأشياء بأريحية؟!. والجواب على ذلك، هو الجهل ببساطة شديدة؛ تجاهل قانون السبب والنتيجة، ذلك إن أنماط التفكير والتربية والسياق الاجتماعي تشكّل تربة خصبة على ما نحن عليه. التجاهل لا يشير إلى الحكمة ورباطة الجأش، بل يشير إلى ترحيل الألم وزرعه بعناية في تربة الذهن الخصبة لهذه الصور النفسية المؤلمة. يمكن إجمال هذا الألم النفسي(ألم الفقدان) بمعاناة عامة، وهي معاناة التغيّر؛ فنحن مدمنون على التعلّق بالمتغير، ونحن نعلم أنه متغير وزائل لا محالة! ومعاناة التغيّر سببّت بدورها حالة إدمانية مؤلمة؛ الإدمان على الألم النفسي، والإدمان على أن هذا الألم جزء لا يتجزأ من"طبيعتنا" البشرية. كلنا مصابون بهذا الألم مع استثناءات قليلة، لكن حالات الاعتياد السلبية أنتجت لنا أنماطاً شكلية من المعاناة، بينما تبقى الأشكال الأخرى مدفونة في دهاليز الذاكرة لا نقوى على مكاشفتها. ما بين الغفلة واليقظة ثمّة عالم خصيب نعثر فيه على ربيعنا الضائع، و كينونتنا المحبوسة في دهاليز النسيان والتجاهل والعطش المحموم نحو أحلام اليقظة، وإدماننا المتواصل على "الارتواء" من البحر المالح.