من يصنع جيشاً من الضوء؟

ثقافة 2021/01/05
...

  صلاح حسن السيلاوي 
خلال ما يقرب من الثلاثين سنة من القرن الماضي، كانت المفردات العسكرية تتمشى في أزقة اللغة اليومية لمجتمعنا، كان (الخاكي) وهو لون الزي العسكري العراقي، يتسيَّد  كل ألوان أيامنا ويتصيَّد الجميل من أحلامنا ويقتنص المرهف والمترف من سنواتنا.
كانت العسكرية كابوساً يُخيّم على جغرافيا البلاد، ومرضاً يجرجر بجحافل فيروساته وعدواها كثيراً من فلذات الأكباد إلى أكفان المقابر.  كانت مفردات العنف تتغلغل في تفاصيل حياتنا. أما شاشات التلفزيون التي نحتشد أمامها لنستمع لآخر أخبار الحرب، وقلوبنا في شفاهنا من شدة الخوف على آبائنا وأخوتنا، كانت تعرض صور العسكر وهم يقاتلون أو القتلى وهم مهشمون، أو أغاني الحرب والطاغية.
هذا جزء من ذاكرتنا عن العسكر، جزء من أحزان العراقيين الذين طالما تهدمت أحلام مدنيتهم وأعمارهم بسبب أخطاء عسكرية وطأت جميع مفاصل حيواتهم. تارخ طويل مزدحم بسراب النهايات الجميلة، تاريخ من الحروب والمقابر والانتماءات للطواغيت.
العسكرية العراقية التي حولت البلاد من مملكة الى جمهورية، فتحت الباب بذلك لرغبات الضباط بالحكم، تلك الرغبات التي لم تنتهِأبدا حتى جعلت البلاد ساحة حرب دائمة.
حين كنا صغارا تهدد الحروبُ طفولاتنا وتزيد تجاعيد آبائنا وقبور أهلنا، كنا نجلس على الطرقات ونعد السيارات التي تمر حاملة جثث الشهداء وقد نتبع أول سيارة تحمل شهيدا لنكون أمام  كثير من المفاجآت حين تصل السيارة الى دار أحد الجيران، يا لها من طفولة أكل الرصاص براءتها. 
طالما أتساءل عن أثر ذلك الحزن في نفوس أصدقائي، عن تشرب عيونهم لتلك الأحداث المأساوية حين كانت المدن غارقة بمفاهيم الحرب، مدن تمتلئ سطوحها بالعاشقات اللواتي يشررنَ بدلات عسكرية  لابد لها أن تجف من الدمع ليرتديها الرجال مع ظنون قليلة بالعودة.
مدن حوّلَ العسكرُ أبناءها إلى أرقام بنادق ترتبط حيواتهم بمقدار قدرتهم على فهم السلاح. السؤال المهم هنا ونحن أمام يوم تأسيس الجيش العراقي هو: ما الذي حصل عليه المجتمع من جيشه، وما الذي يريده منه الآن؟، العراقي وهو يتلفت بين كل هذه السنوات الخشنة الملطخة بتواريخ الهجمات، ماذا يتبادر الى ذهنه وهو يلهث من تعداد صور الشهداء الذين نثرت الحياة العسكرية ملامحهم في الشوارع الحزينة والأخبار الحماسية والأغاني الوطنية؟، لماذا يولد العراقي وفي يده بندقية؟، لماذا يفطم العراقي على البارود؟، لماذا نملك آلافاً من أغنيات تمتدح الموت والحرب والقتال؟، لماذا نملك آلافاً من القصائد التي ترفع من شأن البارود وتغذي ذائقة الناس بدوافع الموت؟، هذه أسئلة وإن كان الحزن يتدفق من بين علامات استفاهماتها، ولكنني أجدها ضرورة في يوم تأسيس جيشنا، لتكون نافذة على ما نريده من جيشنا، الذي نريده جيشنا حقا، لا جيش الطغاة، يد الشعب لا يد الحكام، حصن الناس وأمانهم وليس السيوف التي تأكل رقابهم. 
حين كنت جنديا في التسعينات من القرن الماضي ورثت كثيراً من الأسى عن هذا الجيش المهم، فهو جيش يضم ضباطا غاية في فهم النظم العسكرية، وغاية في الالتزام باشتراطات المؤسسة الرصينة، ولكنه الجيش ذاته الذي كان يقف مع حكامه ضد شعبه وهنالك أدلة كثيرة على ذلك في جميع مناطق العراق.
الادب العراقي شعرا وسردا ومسرحا يقدم لنا ما ظل في ذاكرة أولئك المثقفين الذين خدموا في هذه المؤسسة العسكرية، إذ كتبوا قصائد وقصصا وروايات تؤكد على عسكرة المجتمع واصطباغ جميع او أغلب مفاصل الحياة العراقية بمفاهيم العنف والسلاح. 
قدموا لنا أعمالا مأساوية عن حياة الجندي العراقي عن أحزانه وهمومه وحبيباته، عن شبابه الذي أفناه الموت. 
كم نملك من سيرة للوجع، كم نملك من حزن أسودٍ ملطخٍ بذاكرة المثقفين الذين تسربت أعمارهم بين مفردات (الأسر) و(الشهداء) و(الأرض الحرام) و(الكنى)  و(التسريح) و(الهروب) و(قطع الآذان). 
كل هذه الصور الجانبية كانت تسور الجيش العراقي حين كان يختصر برأي وشخص الطاغية صدام.
هنالك مناطق مضيئة في تاريخ جيشنا، نبحث عن ديمومتها والانتهاء من كل ظلام يحيط برجاله الذين لابد من نهوضهم بقوة، نريد جيشا يأتمر بمفهوم الحياة، يواجه الموت ولا يصنعه، يقف ضد الخراب ولا يتسبب به، ينتمي للإنسان وليس لدينه أو مذهبه أو عرقه أو قوميته،  يحب الأرض ويقدسها ولا يسقيها بالدم إلا اذا كان مضطرا، يدافع عن حريات المواطنين على مختلف انتماءاتهم، نريد جيشا عراقيا عظيما.
نريد جنديا محصنا بمفاهيم الحياة المدنية ضد الطائفية، محصنا ضد  أفواه مخابرات الدول، نحلم بجيش عراقي عظيم يحمي أهله وإننا لمتفائلون.