عبدالامير المجر
في سبعينيات القرن الماضي، وكنت صغيرا وقتها، جاء بيت عمي ضيفا مع ابن عمي في قريتنا في المجر الكبير، صديقه واتذكر اسمه (وائل)، كان ابن عمي عسكريا متطوعا، وصديقه كذلك، امضيا في بيت عمي الذي هو لصق بيتنا، ليلة واحدة، وفي اليوم التالي عادا الى وحدتهما، ما علق في ذهني من تلك الليلة تشعّب احاديثهما عن اصدقاء لهما واستذكارهما مواقف وطرائف حصلت في الوحدة او خارجها، نسيت أن أذكر أن صديق ابن عمي من محافظة اخرى واصدقاءهم الاخرين كانوا من محافظات مختلفة ايضا، وقد جمعتهم الوحدة، وجعلتهم اصدقاء مثلما صنعتهم مقاتلين، شاركوا في واجبات داخل العراق وخارجه، بعد أن كبرت عرفت أن الجيش كان أكبر حاضنة وطنية صهرت أمزجة العراقيين وعرّفتهم ببعضهم بعد قرون من التخلف والضياع والتباعد النفسي، الذي سببه الفقر والجهل وما استدعاه ذلك من صراعات عشائرية غرّبت الامكنة بين الناس، بالرغم من تقاربها، واضعفت الشعب الذي باتت ارضه مسرحا لجيوش الطامعين تتصارع فيها وعليها، ولذلك انتبه مؤسسو الدولة العراقية مطلع العشرينيات الى ضرورة ان تكون الخدمة العسكرية الزامية (اجبارية)، لان ذلك سيعزز الروح الوطنية من خلال وحدة الهدف الكبير (حماية الوطن) ويخلق حالة فريدة من التصاهر لم يعرفها اغلبهم وقتذاك، بسبب الجهل والتمزق وضياع الهوية، وبعيدا عن الاتفاق او الاختلاف مع بعض الادوار السياسية التي شارك فيها، يبقى الجيش العمود الفقري للدولة وحافظ امنها الوطني ليس من خلال الدفاع عن الحدود فقط، بل من خلال ضبط المعادلة الداخلية التي جعلت حتى الصراعات السياسية لاتخرج عن اطاره، اي ألا يتشتت الجهد البشري بين جماعات مختلفة كما حصل ويحصل في بلدان اخرى، وتصبح البلاد غارقة في فوضى وحروب اهلية متوالدة، ونعتقد أنه من هنا جاءت فلسفة الجيوش او ضروراتها الاولى، بمعنى انها كانت الاساس لبناء الدول التي لم تكن موجودة بشكلها المعروف قبل تشكيل الجيوش، فأية دولة لا يمكنها ان تنهض وتقف على قدميها، من دون هذا العمود الفقري الذي يحمل بقية اعضائها والاّ تبعثرت وتمزقت او لم تقم اصلا.
لقد ادرك العراقيون بشكل كبير أهمية الجيش بعد العام 2003 او بعد ان اصبحت الدولة في العراء واستباحتها افواج المسوخ من الارهابيين وتناهبتها الاطماع الخارجية والداخلية، لانه بات بإمكان اية مجموعة ان ارادت حمل السلاح أن تفرض نفسها على المنطقة التي هي فيها، فغاب مفهوم الامن الوطني بغياب القوة المركزية الممثلة بالجيش الوطني، وضعفت وتلاشت قوى الامن المحلي الاخرى لأنها باتت بلا ظهير ومكشوفة امام هذا السيل المرعب من موجات الارهاب، الذي يفتك بالشعب.
اليوم يتطلع العراقيون الى جيشهم الوطني بعد ان استعاد عافيته ووقف على رأسه ضباط مهنيون، وبعد ان تخرجت دورات جديدة عديدة من الضباط الجدد، إضافة الى المراتب الذين توفرت لهم بيئة تدريبية جيدة، ووضع امني افضل بكثير مما كان عليه قبل سنوات، ما يعني ان البلاد اخذت تتعافى واساس هذا التعافي هو وجود الأمن، والأمن لا يتحقق في اية بقعة من دون وجود الجيش بقدراته الكبيرة وذراعه الطويلة، التي تصل لأية بقعة حين يستدعي الامر ذلك، وهو ما يعرفه رعاة الارهاب والتمرد ويحسبون حسابه ولايقدمون على مغامرة يعرفون انها خاسرة بوجود جيش يحسمها في النهاية، ولهذا حين نحتفي بالجيش في ذكرى تأسيسه فإننا نحتفي بالحياة والأمن والاستقرار والتنمية، التي تأتي كنتيجة لذلك، وهو ما نتطلع اليه بلهفة، تحية لجيشنا العزيز والرحمة لشهدائه منذ تأسيسه الى اليوم.