التاريخ الثقافي ليس بعيدا عن الذاكرة، ولا عن المحطات التأسيسية التي أعطت لهذا التاريخ حساسية المقاومة، وقوة البقاء، إذ يكتسب التاريخ نوعا من المناعة، وإذ يتحول مؤسسو المحطات الى ايقونات للشهادة الثقافية، ولرمزية تعزيز مسار «القوة الثقافية». الشاعر الرائد «ألفريد سمعان» واحد من رموز التاريخ والذاكرة، ومن أيقونات العراق الثقافية، بدءا من عمله في تأسيس أول مؤسسة ادبية في العراق عام 1959، والى يوم رحيله، وهذا التمثيل الأيقوني جعله شاهدا على كثير من مراحل تاريخ الدولة العراقية، ومن تحولات وقائعها الثقافية، وصولا الى تسنمه مسؤولية الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب بعد التغيير، إذ كان له الدور الفعّال في الادارة، وفي تنشيط استقلالية ومهنية هذه المؤسسة الثقافية، على مستوى استعادة دورها الوطني والثقافي، واستقطابها لكل الاطياف الثقافية العراقية، أو على مستوى علاقتها مع الفضاء الثقافي العربي الملتبس والمسكون بعقدة «الرعاية الثقافية» التي روّج لها النظام السابق.
رحيل ألفريد سمعان خسارة لشاهد تاريخي، ولرمز زاوج بين العمل الوطني والثقافي والمهني، إذ كان حاضرا منذ الاربعينات في التظاهرات الشعبية التي قادها المثقفون العراقيون، مثلما كان حاضرا في لحظة التأسيس الثقافي مع ثلة من الأدباء والاكاديميين برئاسة الشاعر الأكبر محمد مهدي الجواهري ليعلنوا انطلاق عمل مؤسستهم الثقافية النقابية، حضوره في المسؤولية الثقافية، وعلى نحوٍ أسهم في وضع المثقف العراقي في سياق مسؤولياته الوطنية في مواجهة استحقاقات التغيير، وفي الدفاع عن الديمقراطية وقيم الدولة المدنية والتنوع الاجتماعي والهوياتي، وعن البناء المهني الرصين للمؤسسة الثقافية العراقية، بعيدا عن المركزيات الايديولوجية، وعن ذاكرة الشعارات والأوهام التي كرستها السلطة القديمة.
لقد ترك ألفريد سمعان إرثا وأثرا مهما، على مستوى دوره في الفاعلية الثقافية، الادارية والمهنية، وفي الشأن التنظيمي للعمل المؤسسي، فضلا عن أثره الثقافي الذي امتد منذ ستينيات القرن الماضي، فأصدر العديد من المجموعات الشعرية والمسرحيات، والتي عكست اهتمامه بالقضايا الانسانية والوطنية، ورؤيا الكاتب للصراعات الاجتماعية والسياسية التي حمل سمعان كثيرا من عناوينها الكبيرة، فعكس بذلك مسؤولية الكاتب الملتزم والمثقف العضوي الذي يدرك أهمية الوظيفة الثقافية في المجتمع، وفي التنوير، وفي صناعة الرأي العام الذي يُحفّز الجمهور على المشاركة والثقة بالقيم الثقافية التي تعمّق الوعي، وتوسع مديات الاسئلة الثقافية في مجتمعنا الذي عانى كثيرا من الديكتاتوريات والاستبداد والحروب، والصراعات السياسية والطائفية..
برحيل ألفريد سمعان يفقد الوسط الثقافي علما مهما من أعلامه، وصوتا شجاعا، طالما جاهر برفض الاستبداد، ومظاهر الجهل والتخلف والكراهيات التي حاولت فرضها إرادات الشر والإرهاب.