الشعر، فلسفة الوجود من خلال منطلق الرؤية فيما وراء جدار الأشياء، انه تعبير بتكثيف جمالي ممتلئ بالوعي لإدراك ما يوحيه من مواقف انسانية وجمالية وليدة الاحساس والشعور والرؤية الموضوعية ازاء حركة الكون لتأكيد إرادة، مع تغيير الواقع بأسمى درجات الحرية التي تتجسد في طرح القيم الفكرية التي لا تعرف الصمت. وباستحضار المجموعة الشعرية (فقه النشوة) التي انتجت عوالمها النصية ذهنية فكرية مكتنزة، ونسجتها انامل منتجها الشاعر عمار المسعودي، واسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها/2020. كونها نصوصا (اسفنجية التراكيب)،
تكتفي بمادتها وموضوعها وتستمد هيأتها من بنيتها الجملية وتغوص في اعماق اللحظة الشعورية المتدفقة والمكتظة بالمتناقضات والمتميزة بالتوتر الانفعالي مع تكثيف وايجاز جملي مرتكز على رؤية واعية، يصاحبها ايقاع منبثق من داخل البناءات التهجينية المنفتحة على الشعري والسردي والنثرية الفنية، مع تحريك الثوابت وتوظيفها وعناصرها توظيفا نفسيا: (البرد والحر سران في النوافذ/ بينما ما زلت تفتحينهما على قلبي/ بلا أي انتباه او اهتمام/ لا تأت بمناديلك بعدما تملأ عيني بالدموع/ بل خذ من كل فصيلة نوعين من الامل/ فأنت في المراكب التي ستصل بك الى اليأس/ دائما ما تفلت يدي في المصافحة/ لذا سيكون من واجبي اتجاه التحايا/ ان اتجنبك) ص12.فالشاعر يعتمد البناء المقطعي بانسجام فني رغم تفرد كل مقطع برؤيته ورؤاه، لكنها تأتلف بوحدة عضوية كاشفة عن مهارة المنتج اللغوية مع هيمنة الصيغة الجمالية على النسق الشكلي للنص، الذي تقوم صوره الشعرية على مجموعة من المتناقضات، كونه يصور الصراع النفسي الحاد الذي يتولد في الذات الانسانية، مما يبلور الوعي الشعري ويكشف عن الحالة الشعورية القادرة على صهر عناصرها وتشكيلها تشكلا فنيا، فيحقق قصيدة الرؤية التي هي (ليست شكلا من اشكال التعبير وانما هي شكل من اشكال الوجود) على حد تعبير ادونيس، اضافة الى انه يجسد صوره وافكاره من خلال الرموز التي تتحد بها اتحادا داخليا، مؤالفا بين الذاتية والموضوعية وفق المستوى النفسي، فضلا عن انبعاث النبرة المموسقة المقترنة بالصور المتشكلة من الفاظ موحية بعيدة عن الضبابية والغموض، مع طغيان الحضور الحسي والكناية الظاهراتية المندافة بأمواج نغمية ولفظية
تتباين وفقا للسياق
الانفعالي.
(تنادي علي ولا استجيب/ تقطع فيما يشابه السير في المنام زندين من بقايا غفلة في قميص/ وحينما أصل حد ذروة التصريح بلونهما واستدارتهما وحريرهما/ سأكون خارج ما اتفقنا عليه قبل بستانين من الاقتراب او من الابتعاد/ لا احصيك بعدد المصابيح المضاءة/ كوني ما زلت في محاولتي في ازالة الظلام الذي نتحجج بعدم مسؤوليتنا عنه معا) ص67.
فالشاعر يحاول ان يبرز قدرته على التقاط لحظات الواقع بشكل خاص مع قدرة على الديمومة، بما تمتلكه نصوصه من قدرات على التجذر البيئي بفضل اصالتها الشكلية واللغوية والرؤيوية، ففيها يستعير بعض مظاهر الطبيعة من اجل اداء المعنى مع استعارات وتصورات صوفية قد تنمو بشكل صور فنية مؤدية غرضها الدلالي، اذ الربط بين المشهد الطبيعي والحالة النفسية..
(يقول لك: إنه يحبك مثبتا ذلك بحومان الفراشات انتظارا لالتصاق شفتيه بشفتيك/ ثم يرميك بالصدود خشية من افتضاحه وتوهج خديه بك/ ثم يدانيك ويباعدك، مبررا ذلك من انه غيمة بينما رياحك عاتية/ فقه النشوة ان يحصل كل هذا ولا تدري) ص82 .فالسرد الشعري يهيمن على عوالم النص، فيحيل الى حوارية مركبة متجاوزة الذات لتقدم صورة تدفع المستهلك(المتلقي) للمشاركة في التصور والاندماج في فضائها، فضلا عن انه يعبر عن صوفية الحزن وعن حلوله فيه ومشاهداته له، فالنص يكشف عن معاناة تحتضن الحياة وهمومها باعتماد الصور المتوالدة مع بعضها البعض، وهذا يجرنا الى ما ينتجه ابن الرومي الذي (يستغرق في موضوعه حتى لا يترك فيه زيادة)، لذا كانت نصوصه تمتلك قدرة انفعالية تتعايش في احضان واقع تربطها معه علاقات انسانية متحركة تؤطرها وحدة عضوية حية نافذة في جوهر المعاني، مع طغيان الصفة الفكرية.. التأملية الكاشفة عن تجربة شعرية لا تعرف الجمود بل تتطور وتنمو وتتكيف بتأثير القلق، الذي يجتاح الذات المنتجة التي تدرك جمالية الصورة الايحائية التي تنتجها اللفظة المشكلة للبناء الفني للعبارة وعمق المعاناة من وطأة الوجود، لذا كان الشاعر مبحرا في عالم التأمل الكوني وهو منقطع في اغترابه المكاني متحسس لما يختمر في ذاته والآخر من خلال تجربته المكتظة بالانفعال والمنتجة لصور الصراع النفسي والهم الإنساني: (لا اتوفر دائما على مهنة الصمت الا في الكلام الذي لا يأتي بثمن النطق به/ من هذا سأعدّني ممتلكا لبعض الحكمة وهي تنجز حفاظا على ما يتبقى من اسباب لجراح عميقة/ تراودني فكرة الأشجار/ ما يجعلني متطاولا/ اتوجس من فلسفة الدوائر/ كوني العارف بكيفية تشكلك على غرارها حد اغماض ما تبقى من عينين/ أو كسر ما يصادفني من زجاج) ص142.
فالنص فعل مشارك لحركة الحياة عبر رؤى الشاعر المتجاوزة للقوالب الجاهزة والقائمة على بنية زمكانية مركبة، اذ هناك الزمن الواقعي والنفسي، اضافة الى انه يقوم على درامية منولوجية تعتمد على الاقتصاد اللغوي مع اعتماد اسلوب التراكم الدلالي للمتناقضات الحاصلة داخل نسيج النص، فضلا عن زخم الجملة الفعلية (يأتي/ تنجز/ تراودني/ يجعلني/ اتوجس/ يصادفني) التي فرشت روحها على جسد النص فامتلكت صفة السيادة الزمنية الحاضرة مع تخصيب المعنى وتكثيفه عن طريق الاختزال وتخطيط معماري يحمل شحنته التي منحت النص انعطافة جمالية، هذا يعني ان المنتج (الشاعر) يتحرك في بقعته الزمنية حركة دينامية قادرة على استيعاب حركة
النص.