المقلد رئيس بل أساسٌ لأنه أصل، ذلك لأن (الاختلاف بين الشاعر الأصيل والشاعر المقلد هو لأن تقليد الشاعر الأول أكثر عمقاً)، كما يقول نورثروب فراي في تشريح النقد. من هنا يبدو التقليد ضرورة مفروضة لا بد منها لا لشيء إلا ليتمّ تحاشيه وتجاوزه وإن نسبيّاً، ذلك أن التجاوز الكليّ هنا ما هو إلا ادعاء لا أكثر.
الأهمّ أن نفرّق ما بين نوعين من التقليد؛ الأول اجتراريّ تمثيلٌ للأصل مبنىً وطريقةَ تفكير، استلهاميّ متجوهرٌ في الأصل، متماهٍ معه لأنّ الأصل هنا مُضيِّف/ والنوع الثاني استعاديّ ابتكاريّ يهسّ فيه الأصل ولا يظهر، يومض كما فسفور في الظّلام كلما سقط عليه ضوء الابتكار، ولا يتجلّى لأنّه هنا عَرَضيّ، لأنه مُضيَّف، وذلك على ما يبدو لأن كلّ ما ((يواجهنا اليوم إنّما هو قديم مخبّأ في التاريخ))، ولأنّ ((كلّ ما هو قديم يظلّ يلاحقنا)) كما رأى قديمانِ، من النّوع الثاني طبعاً، هيجل وهايدجر.
أمّا التّراث، بعامّةٍ، فهو الحيويّ من التاريخ غير أنّه في الحقيقة ينقسم على قسمين: التراث بوصفه تقليداً وسياقاً تندرج فيه الأشياء الثابتة المصابة بوهم القداسة والمُثُـل والأعراف.
والتراث من جهة كونه تذكُّراً
حيويّاً عِـياديّاً فحصيّاً قابلاً للابتكار، من هنا يمكن أن نفهم لماذا (المستقبل ينير الماضي) كما قال نيتشه، وليس العكس وفقاً للفهم السّائد.
إنّ الفحص البعيد عن أيّما حماسةٍ متطرّفة، يجعل جهاز هذا الفحص منيعاً على فايروس مفاده أنّ كلّ فهمٍ لمستقبل الأشياء بخاصّة في نقد الشِّعر هو من شؤون العَرافة والكهانة والتّنجيم.
إنّ التسليم نقدياً بهذه الشؤون يجعل النقد بعيداً كلّ البعد عن أن يكون دقيقاً، أن يكون تشريحاً، باختصارٍ أن يكون عِلماً لأنّ ذلك معرفيّاً (يعزل نمط المستقبل عن باقي أنماط الزمان، فيُنظر إليه في عزلته وطهارته وانفصاله المطلق عن شوائب الماضي) كما يرجّح بنعبد العالي ذلك. الشِّعر فِكرٌ
يُكتب نبوئيّاً ويُقرأ وينقَـد جماليّاً ومعرفيّاً.
وعليه فأن نتذكّر لا يعني هنا أن نقلّد ونستلهِم، بل يعني أن ننقـد لنعزل التّالف لنفاد صلاحيّته عن الفعّال لحيويّته.
من هنا نظلّ نرى أنّ أبا تمام مخبوء في السّياب، والنّفريّ والتوحيدي مخبوءان في أدونيس...، وكلَّ المؤلفين بخاصّة أولئك الذين كتبوا في الدّين والفلسفة والسِّحر ممن قرأ لهم بورخيس مخبوؤن فيه. وأن نتذكّر أيضاً يعني بهذا المعنى أن نكون، كما يقول هايدجر (بالقرب من..، أن نظلّ مشدودينَ إلى..، لا إلى الماضي وحده، وإنّما إلى الحاضر وكلِّ ما سيأتي)، وعلى هذا أنْ نتذكّر ونحن نفكّر ونكتب... يعني أننا متواصلون مع ما كان ومنقطعون عنه في الآنِ نفسه، لأنّ الذّاكرة ليست (وقفاً على الماضي إذا ما فهمنا التاريخ على أنّه تعاقبُ العصور، وتتالٍ لأنماط الزمان)، أنْ نتذكّر لا يعني أننا نستعيد الأشياء التي نتذكّرها، وإنّما لنفحصها ونتواصل مع هذا المفحوص الذي لولا تمتّعه بطاقةِ أن يتجدّد لما كنّا تذكّرناه أصلاً من بين سائر الماضِينَ، أو لَما كان خطر لنا على بال.
نتذكّره لأنّه لا يزال مشحوناً بقوّة التواصل، وعلى ذلك علينا دائماً ونحن نتذكّر أن (نجعل من التّحوّل الذي نعيشه مركزاً ونصدر عنه) كما ينصح بارت.
أن نتجاوز كلّ تقليد لا يعني في الحقيقة الغاءه، وإنما تخطّي ماضيه، وعلى هذا يمكن أن نفهم قصد نيتشه من (أن ننفصل عن التقليد من غير أن نحلّق بعيداً) فإذا ما فحصنا، وفقاً لهذا الانفصال، طبيعةَ الأشكال الشّعرية العربيّة الرئيسة الثلاثة؛ سنرى أنّ الشكل الحديث كان يحلِّق في فضاء شكل القصيدة العربيّة القديمة وإن تجاوز بعض أنظمتها، فكان أوسع منها تحليقاً، فيما تحليق قصيدة النثر كان أوسع فضاء من ذلك، بل بدا تحليقاً بعيداً لكنّه عمقيّاً يحلّق في فضاء اللغة نفسها، لأنّها قصيدة (لا تخضع لمعيار) فضاء القصيدة الأوّل والثاني، لأنّها (صيرورة لا تعرف التّوقّف) وفقاً لجيل دولوز، لأنّها طقس مختلف كثيراً ولكن في المناخ اللغويّ نفسه.
وعلى هذا سيكون التّجاوز هنا تخلُّصاً من الأثقال، نوعاً من (الخفّة) فنفهم بذلك مقصد فاليري من إنّ (عليك أن تكون خفيفاً مثل الطائر، لا مثل الريشة).
إنّ مفهومات (التّقليد) تنطوي كلّها على أمرين رئيسين: الأصل، ومحاكاة الأصل. وعلى هذا نفهم أنّ كلّ شيء ينهض على هذه المحاكاة ما هو في الحقيقة سوى تَـبَع، بينما الأصلّ يظلّ محتفظاً بإبداعيّته الأولى، لأنّ كلّ عمل ابداعيّ تكمن أصليّته في طريقة تعبيره أوّلاً.
ولابدّ هنا من التّمييز ما بين التقليد و(التّأثّر) الذي غالباً ما يُنظر إليه على أنّه تقليد أيضاً، في الوقت الذي هو كلُّ علاقة عضويّة لنصّ ما مع نصوص سابقة، ولا أحد أفلت سابقاً ولا سيفلت لاحقاً من هذه العلاقة الكيميائيّة التّحويليّة، كما علاقة أرسطو بأفلاطون، وماركس بهيجل، والمتنبّي بأبي تمّام، لا كما تلك العلاقة الاستلهاميّة الاتّباعيّة كما في التقليد. يقول بورخيس: أنا جميع المؤلّفين الذين قرأت لهم.
القديم هو ما يشكّل الآخرَ لكلّ مختلف الآنَ، ولكن القديم الذي كان مختلفاً مبدعاً في زمنه، ذاك- وإن كان واقعاً زمنيّاً في الماضي- إلّا أنّه من النوع الذي يرفض أن يمضي، كما أنّ هنالك أدباً حاضراً الآن زمنيّاً، لكنه في الحقيقة لا حضور ابداعيّاً له.
إنّ الحاضر (دائماً مؤقّت يمكث إلى حين، إنه دائماً ضدّ الحضور الذي ينذر بالزّوال)، بينما الحاضر الإبداعيّ هو (ما ظلّ يحضر عبر تبدّيهِ وتجلّياته) كما يفهم هيدجر.