شاعرات الأندلس بين غزارة الذكر وقلة الشعر

ثقافة 2021/01/10
...

د. إسراء العكراوي
 
حدثنا تاريخ الأدب عن ظهور عدد غير قليل من النساء الشاعرات في بيئة الأندلس، واشتهرت منهن الجارية العجفاء وحفصة الركونية وأمة العزيز وولادة بنت المستكفي وغيرها، وكُنَّ ممن أسهمْنَ في إثراء الأدب الأندلسي بألوان طريفة من موضوعات الشعر ومقطوعات جذابة من فن القصيد، فكان إثراؤهن للشعر أمراً بيّناً في مجتمع كاد كله أن يقول شعرا.
 وكان لازدهار الحضارة في الأندلس أثره الواضح في إتاحة الفرصة للمرأة الأندلسية، ما مكنّها من تحصيل العلوم ومختلف الفنون، وقد أثرت الطبيعة في الأندلس تأثيراً فعالاً في مشاركة الشاعرة للرجل في الإحساس، ومقاسمته الشعور، مالئة وإياه الوجود بالنغم العذب، والجرس الموسيقي والبيان الساحر الخلاب، حتى قيل إن عدد الشاعرات في الأندلس قارب ستين ألف شاعرة، كان أكثرهن من غرناطة؛ وعلى الرغم من أن هذا الرقم يبدو مبالغاً فيه، إلا أنه لا يخلو من حقيقة، فلولا وجود حركة شعرية نسوية زاخرة بموروثها الشعري الأدبي لما أطلق هذا الحكم.
 ومع كثرة عدد الشاعرات في الأندلس إلا إنه لم يصل إلينا من أشعارهن إلا النزر اليسير الذي لا يتناسب مع ما ذكر من أخبارهن، وقد علل الباحثون ذلك بـالنظرة التقليدية الضعيفة إلى أدب المرأة الذي لا يضاهي أدب الرجال بأي حال من الأحوال- بنظرهم- ومحاولة عدد من أصحاب الأخبار ومن عُنوا بجمع الشعر العربي إغفال دور المرأة وما أنتجته من أدب ولاسيما الشعر استصغاراً لشأنها، وتوجيه اهتمامهم إلى الرجال وكل ما يمت إليهم بصلة. يضاف إلى هذا ندرة الأصول التي تتحدث عن أدب النساء، ومن الباحثين من علل ذلك بأن الرواة يميلون إلى الغريب الوحشي، وشعر النساء يكاد يكون خالياً من هذه الخصيصة، لذلك تحاشى الرواة رواية ما كان للمرأة في الأندلس من شعر، فضلا عن تحكم ذوق مؤرخي الأدب الأندلسي بما يرتضيه من أشعار النساء لذا أُغفل أغلبه.
 وربما أقلع الرواة عن رواية شعر النساء لفحش هذه الأشعار وبذاءتها وابتعادها عن الذوق الأخلاقي العام!! ويمكن لنا أن نضيف سبباً آخر كان قد أسهم في ضياع الكثير مما يخص أدب المرأة، وهو أن أكثر الكتب التي وصلت إلينا عن حياة الأندلس أُلف بعد سقوط ذلك البلد العظيم. وقد تميز الأدب النسوي في الأندلس بأن المرأة الشاعرة كانت تبوح بمكنون فؤادها، وتسترجع لحظات صفوها مع الرجل، وتتغزل فيمن تحب، على العكس من الشاعرة في المشرق إذ كانت مطلوبة لا طالبة ومرغوبة لا راغبة، وقد لاحظ الدكتور مصطفى الشكعة ذلك مقرراً أن الشاعرة في الأندلس إذا كانت قريبةً من عهد الفتح كانت أقرب إلى الحشمة وأبعد عن الإسفاف بالقول، وذلك لقرب ارتباطها بعروبتها، وإذا بَعُد بها العهد عن الفتح كانت أقرب إلى التحرر. ولم تقف الشاعرة في الأندلس عند حد نظم الشعر بل تجاوزته إلى نطاق عقد الندوات الأدبية مُخالطةً فيها الشعراء والأدباء، مُناظرةً ومُباريةً ومُناقشةً لهم في ما يخص الشعر والأدب، ومن أشهرهن الأميرة الشاعرة (ولّادة بنت المستكفي) وكان لها مجلس مشهود في قرطبة يؤمه الأعيان والشعراء ليتحدثوا في شؤون الشعر والأدب بعد زوال الخلافة الأموية في الأندلس.