الحديث ليس عن الفنان رساماً ولكنه عن الفنان بعامة، نحاتاً، كاتبا، شاعراً، ممثلاً وموسيقيا وبينهم الرسام الأكثر وضوحاً بهذه الصفة قبل أن يطغى عليه الممثل ثم المغني وحامل القيثار. وحين نبدأ الحديث عن الفنان قصد توصيفه وتقويمه (تقييمه كما يقولون)، فنحن نستعيد خط تطوره من حرفي، إذ كانت «صنعته» رساماً، ولم تحضر «فنان» بعد - وحتى نتجاوز عصر النهضة وندخل القرن الثامن عشر.
هنا غابت صفته الميكانيكية واتصلت كلمة فنان بمفهوم الابداع الخاص وأيضاَ بالنزوع الليبرالي، ثم يمر عبر المؤسسات والسياقات السياسية فإعادة ترتيب السلم الاجتماعي، ثم النزوع البوهيمي، ليتجاوز ذلك كله وينفرد عنها.
حدث هذا في الشعر كما حدث في المسرح- كما حصل في الحضور البارز للسولو في الموسيقى. فموسيقيون شاردون بفرادتهم، بذواتهم، يعزفون كما في حوار بين روح العازف وروح العالم، أو كما احياناَ يحاورون المجهول.
وهنا صار لزاماً على المفكرين الاجتماعيين وعلى مؤرخي الفن ونقاده، كما نقاد الأدب، الانتباه إلى الحسَّ الذاتي المتصاعد وإلى الخطاب الخاص، حتى صارت الظاهرة جوهرية لأي تقويم جديد.
لم يتمتع الحضور الذاتي بحريته طويلاً، بل هو لم يبدأ أصلاً في فضاء حر، ولكن في فرص تمرد محددة، ليتدخل «العنف السياسي» و»النقد «الديني» وليتدخل من بعد التهميش وليبدأ– سواء في اميركا أو في الاتحاد السوفيتي، الموقف العلني المضاد للحالمين، أو المنفلتين- وهي تسمية تقارب المارقين- وظلت «البوهيميون» صفة تتداول في أروقة الفن غير الرسمية والإنفاق والصالات نصف المضاءة في الأزقة البعيدة. وهذا هو أول تحرك لهوية أخرى، غير رسمية، قد أجهض! هذا القول لا يمنع من وجود بقايا تحمل صفة «المنفلتين»، وهي صفة تتضمن إدانة، أو الصعاليك، وهي صفة لها شبه بما في التراث العربي.
السؤال الآن: لماذا «المتسكعين»..؟
لأنهم أولاً معوزون مادياً وفي حال شبه التشرد على خلاف أولئك المرفهين أو المتنعمين بنعم المؤسسات الرسمية، وأقصد بالرسمية هنا رسميات الدولة. الأكثر لأنهم خارجون على الطوق فتركوا المستقرات الناعمة التي توفرها المؤسسات للمطيعين لقيمها وعوالمها الرسمية. فهم في ذلك، وبشكل ما، بعض الحاشية أو بعض الاتباع على خلاف أولاء المتمردين على الحدود التي رسمتها المؤسسات الراعية وتريد استمرارها.
المطلوب الحقيقي الذي لم يعلن، هو أنهم يريدون الفن مؤسسة منتجة تصورات عن عالم الدولة وجمالياتها، أي العمل على زيادة حضور مفردات تلك «الدولة» محدودة الدائرة، والتي هم أبناؤها. ثمة ولاء واحتفائية في العمل الفني!
صحيح لم يكن هناك توصيف للفنانين وسلوكهم وحوافزهم، ولكن كان العمل ضمن إطارِ أهم صفاته: منع الخروج عنه ومنع التمرد أيضاً منع ازدواج الزهو بنعم السلطة والتفرد الحر بعيداً عنها.
ثمة وجه آخر للفنان وهو يعمل ضمن مؤسسة لها رعاية رسمية: معارض، حوافز، احتفالات، مهرجانات، دوائر ومؤسسسات إعلامية وصحافة مملوكة للدولة أو قريبة منها أو تابعة لمتنفذين وأحزاب، هذه استرضاؤها مطلوب منه، بل يسعى هو سعياَ له، ثمة ازدواج إذن، تمرد من جهة وانتظار الاعجاب الرسمي من جهة، فنان بوهيمي كما وصفناه يقف على أحد مسارح الدولة ليعلن تمرده «غير المؤذي» أو «الطريف». أكثر من ذلك يرتدي ألواناً ويثير التصفيق والضحك فهو متمرد بسلوك ومظهر المهرج.
وهذه ظاهره أوروبية قبل أن تكون مألوفة خارج أوروبا. لقد أسهم هذا دون أن يدري بإسقاط التمرد! وهم أرادوه كذلك! فقد كان أسلوباً لعيناً لإسقاط الهيبة والأهمية، فليقل مايشاء! استغلوا فيه جوهره المتمرد ونزعة الحرية التي تلازم فنه، فهو تحت اليد! هذه لعبة مفهومة من الطرفين، ومستمرة منذ عقود.
فقد يأتي فنان، شاعر، متمرد على الدولة الماحقة هناك، أمام الدولة الماحقة هنا، يشتم حاكماً ويسترضي مثيله! فنانون كبار أهدوا لوحاتهم إلى حكام تشتمهم شعوبهم، لعبَ مع وضد هدف واحد، فلا الذات نقية التفرد هنا ولا العمل فن حقيقي التمرد. هنا شعراء وفدوا بصفتهم متمردين هناك ليبدوا خضوعاً واسترضاء للسلطة هنا، كل ذلك باسم الحرية وباسم التمرد.
مع ذلك، وبالرغم منه، نحس بأن الهوية المثقلة تريد أن تتحرر فتستريح. يردّنا عن هذا، إن هي أمثلة للازدواج الأقرب للعب، وليس أمام مواقف حقيقية جادة، وأنه الفعل الخائب ومزاوجة النقي بغير النقي للافادة، والانتفاع، من الاثنين.
ثمة أحياناً خروج مهذب من هذا الجو المؤسف، إنه بقي رسمياً ولكنه أتخذ مسعى آخر، يحميه ويحمي فنه، ذلك هو اهتمامه بجوهر الحياة والإنسان، ضمن اهتمامات كونية تمنحه الترفع، أيضاَ تبعد عنه متابعات التسلط بأنواعه. فهو عموماً يعمل «عملاً» في المؤسسة أو الدولة، ويبدع فناً في
الخلوة.