موج يوسف
بعد التجديد الشعري في عصرنا الحديث الذي حمل لواءه نازك، والسيّاب والبياتي وأدونيس وغيرهم هل جاء من بعدهم بتجديد أدبي أو شعري؟، ستتوارد إجابات قائلة: نعم قصيدة النثر. لكنّها ليست ابتكارا عربياً، بل هي نتيجة انفتاح العرب مع الغرب، والتبادل الثقافي الذي حصل بينهما، ولأنَّ الأدب رسالةٌ إنسانيةٌ فمن الطبيعي أن تتأثر الأمم في ما بينها وأنا أؤمن بهذا التبادل، لكنني ضد الاستهلاك الثقافي، الإتباع الأعمى من دون الخلق والإبداع، وما أعنيه بهذه السطور أننا منذ بدايات العصر الحديث وبعد النكبات العربية السياسية والاجتماعية دخلنا تحت غيمة التقليد والإتباع ـــ في الأدب والفكر ــ وقد يرى البعض أن هذه الرؤية فيها غلو أو مبالغة، وهذا ما يقودني للعودة إلى الوراء، ليقيني أن العربيّ مازال يعيش في الماضي حتى لو فكر في الخروج منه سيكون جديده فرعا من الأصل القديم، بسبب القياس الثابت، فالدين هو الكامل
والقديم.
والمطيع هو المتديّن، والمستبد هو المبدع، وهذا يقاس على الأدب (والشعر بشكل أدق) وجاء التقسيم الشعري (قديم ومحدث)، وقد وضعت المعايير النقدية على وفق القديم، وصار هو القياس المتبع ممّا حدا بثقافتنا العربية التقليد الأدبي أن يكون سارية العلم وبوصلة كل أديب. إذا بحثنا عن هويّة الأدب الفردية لم نجدها، بل نجد هويّة جماعية أو لغة الجماعة هي السائدة ولا ننسى مسألة أخرى هي أن الثقافة العربية في جوهر تأسيسها كانت تقليداً وأن الديّنَ مُتداخلٌ ومُندمج فيها، وبالظواهر الاجتماعية، والشعرُ موجود، والشاعر لا يكتب وإنما ينسخ ما هو موجود في عقل الأمة وذوقها. ولو حاول الخروج عن هذا التقليد سيجابه من الجمهور وهذا الأخير نقسمه على قسمين أحداهما: متدني الذائقة الأدبية ولا يميز بين لغة الأدب ولغة الحكي ولا يبحث عن الفكر بل يستهويه التلاعب باللفظ، والآخر: قارئ لديه ذائقة لكنّه يجامل على حساب النّص الأدبي. ونعود للأديب مرة أخرى (المقلّد) الذي يلجأ إلى مؤسسة ما أو الدولة فيدخل في أحضانها، فيصبح أدبه أو شعره ناطقاً عنها ويتناسى أهم قضية وهي أن الأدب اصطناع إنساني خاضع للتغير، والتجديد كالفلسفة والفكر، فهو ليس له كلمة أخيرة. وهذا يجعلنا نتساءل إن كان الأديب أو الشاعر يوحّد بين اللغة والكلام؟، ما نلحظه كباحثين أن أغلب الأدباء لا يدركون الفارق بين هاتين الثنائيتين، فثمة فارق جوهري هو أن اللغة هي الشيء الأزلي والقديم والثابت وهي موجودة قبل الشاعر وهو لا يختارها، أمّا الكلام فهو: تركيبٌ جديدٌ مغاير وفيه يقع الإبداع وابتكار الصيغ وعباراتها بقالب فكري، والكلام يمثّل هوية فردية لمبدعيه لما فيه ابتكار وخصوصية ويحملُ حركةً ديناميكية. فهذه القضايا التي أشرنا هي رؤى تتطلب التفكّر بها ومن ثمّ إدراكها حتى يتمكن الأديب أو المبدع من الخروج من عباءة التقليد، وهي ايضاً محاولة لإزاحة الساكن بالمتحرك؛ لأننا وقعنا في جبّ الاستهلاك الذي صرنا نأخذه من باقي الأمم، ونغرف منه من دون وعي وباتباع مهذب من غير تمرد.
وقبل الختام ونحن في صدد الاتباع لا بد من الإشارة إلى المهاجر الثقافي وهو (الهايكو) قصيدة الهايكو الياباني والتي سادت والدعوات التي وجُهت إلى النقاد للكتابة عنها وتناولها في الدراسات والبحوث، أرى كباحثة لستُ بالضد من هذا الفن لكنني ضد الاعتناق الأعمى من دون تطوير فيه. أيضاً نردُّ على أصحاب تلك الدعوات أنه لا يمكن إدخاله ـــ الهايكو ـــ في الدراسات وهو كمصطلح مازال مترحلاً من اليابان إلى الثقافة العربية، وهذه الأخيرة باتت تتأثر ولا تؤثر بالآخر لذلك أطلقنا رؤية الساكن العربي. وفي ما تقدم أن ما أثرته من تساؤلات ورؤى لا على سبيل العموم فهناك محاولات إبداعية وهناك مبدع له هويّة مميزة ولا ننكر دور أدبنا وتأثيره في باقي الثقافات، لكنّ الساكن هو السائد في عصرنا
الحالي.