ياسين النصير
عندما لا تكون مستقرًا في بلدان الهجرة، يتحتم عليك أن تنقل قدميك في أمكنة مختلفة، حتى لتحسب نفسك سائحًا من دون سياحة، عندئذ تتحين الفرص لتبقى هنا أو هناك، فتقضي أيامًا متشابهة، دائمًا يكون المقهى هو الملاذ الذي ينجيك من الضياع، وحتى يحين موعد عودتك للبيت أو للشقة التي لم تألف السكن فيها بعد، تكون قد مررت بما كنته في الأمس. لاسيما وأنت تعالج وضعك المادي بين أن توفر الإيجار وأن تطعم نفسك، السكن جزء من المرض الذي يعاني المهاجر منه، ولن تجد في الأردن تلك الإمكانية أن تعمل من دون أن تحسب على أية جهة سياسية، لتجد نفسك محاصرًا. كان بعض الأردنيين يفرزون بين مثقف وآخر تبعًا لعلاقته بالنظام العراقي، فلم تجد من يتفهم وضعنا إلا من قبل المثقفين اليساريين، وهؤلاء ايضًا ضحية وضعهم الاقتصادي.
للفنان العراقي، ز..ح، صديقة روسية جميلة، ولديها طفلان أخرسان، رسمهما وأمهما أكثر من مرة، فزينت رسومهم غرفتنا الصغيرة، فنشأت بينهما صداقة، ولأنها روسية، فليس من ضير أن يفكر ز..ح. بالهجرة إلى روسيا، إلا أن الأمر لا يستقيم وتفكير بعض رأسمالي الأردن بأن يطمعوا بانتزاع صداقة من هذا النوع ليحرموا فنانًا أحب، وامرأة وجدت فيه أبًا لولديها، فكان أن هُدد بالترحيل إلى العراق، إذا لم يترك صديقته الروسية. وبالفعل كنت أحس بمعناة فنان يقضي الليل منتحبًا على ضياع أمل العلاقة والرحيل، هكذا كان وضع البعض منا، حتى النعم البسيطة كانت تحت الأعين الرقابية. مع ذلك كله، تجد احيانا بعض السلوى في صحبة حباها الله بالكرم والفن والطيبة والتوافق بالرأي، كان من بين هذه الصحبة الروائي الفنان محمود عيسى موسى، الذي يقترن اسمه وصيدليته بمدينة أربد. فأقول دائمًا أربد محمود عيسى موسى، وأربد سليمان الأزرعي، وأعني العين المضيئة للأدباء العراقيين المهاجرين، ومعهم الدكتور هاشم غرايبة، والدكتور ابراهيم الخطيب، وآنستان جميلتان كزهرتين بريتين طعامهما الصمت، يحضران كطيف في الصيدلية، ودائمًا يرافقهن العطر وسط حواراتنا المختلطة مع دخان الشاي والميرميا والقهوة، فهي ليست صيدلية محمود عيسى موسى، بل صيدلية الشمال الأردني كله، ما أن تشير إلى سائق التكسي باسم الصيدلية حتى يقول لك محمود عيسى. ما ذهبت لأربد إلا لزيارة تلك الصومعة الفنية والعلاجية والثقافية، إذ قلما تجد ما فيها في غيرها، ولذلك ارتبطت علاقتنا بهذا التشكيل الكوني: أدوية وعلاج وكائنتان سماويتان ومحمود الأنبياء. وشيء من فضاء مدينة لا تمنع الرؤية لسطحها الممتد.
وانت تغادر عمان باتجاه أربد، الأرض السهلية، تستعيد أرضك التي هاجرت منها، ترتسم أمامك هذه الصورة لكائنات الصيدلية، لتجد أن الناس كلها على السطح اليومي، ليس هناك مغارات ولا كهوف في ما ترى في أربد ولا حتى ارتفاعات أو انخفاضات، كما في عمان، هذه السهول الخضراء المحاددة لإسرائيل عانت من التدخلات البيئية ما أضر بمزارع الزيتون في أربد، إذ كانت اسرائيل تمارس قضم الحقول بطريقة ارسال مجموعات من الجرذان لتقضم الاشجار وتخرب الأرض.
في الليل يصطحبنا محمود إلى بار يطل على جبل الشيخ في اسرائيل، ومن خلال الرؤية المضيئة نرى ما كنا نحلم به وهو أرض فلسطين المغتصبة، ووسط غناء خليل شوقي تبدأ الجلسة مصاحبة للبحر وللجبل وللسهل ولامتزاج محن العراق بمحن فلسطين، وإذا بنا بعد كأسين تمتزج دموعنا بأناشيد ناقصة عن الغربة، فلكل منا مهجر، وكل منا له ليلاه، وتبقى أغنية اليسار العربي في محن لا حدود لها. هكذا صور محننا محمود في رواية "حنتش بنتش"، فأخذت فصلا منها لنشره في مجلة المدى، ماذا يحدث لإنسان مهاجر وجد أن هجرته تتعمق في هجرة آخرين عانوا من اضطهاد وترحيل، وها هم يقدمون لك اليد الكريمة حتى لتشعر أنها يدك لأن ما فيها يغني غائلة الحزن والغربة والبعد. كلما زرت عمان، ومن خلال وديانها المتعرجة، أرسل قبلة لأربد محمود عيسى موسى، سليمان الأزرعي، هاشم غرايبة، والمرحوم ابراهيم الخطيب.