يتناول نص (مارتير) للكاتب الالماني ماريوس فون ما ينبرغ قضية التطرف الديني ووضعها على طاولة التشريح، بقصد تحليلها والبحث في دوافعها ودراستها من عدة زوايا، من اجل الكشف عن اهدافها وغاياتها، ومحذراً من تلك الاهداف التي تسعى الى أن تجرّ الانسانية نحو أودية الجهل وايقاد نيران التعصب التي تعصف بالمجتمعات.انه رسالة انسانية توجه الى قراءة النصوص الالهية بعقلانية وفهم واضح وترسم صورا للحياة مقابل الموت، الذي لا مفر منه فيما لو استفحلت ظاهرة تلك القراءات المتعصبة.
وان كان (بنيامين) حاملا لفيروس التطرف الديني والذي يشكل طرف الصراع الاول مع مجموعة اصدقائه واساتذته، فان اولئك ايضا شخصيات ضائعة في متاهات فكرية تتأرجح ما بين ثنائيات (العقل واللا عقل، الوهم والحقيقة، التعصب والعلم) ويعمل النص على تعزيز هذه الصراعات وتغذيتها بما يزيد من حدة التوتر والشد في بنائه الدرامي المحتدم، فليس هناك من يستطيع ان يفهم تلك الشخصية المتطرفة وينجو بها الى بر الامان، وليس هناك من يخفف حدة الهوس الذي ينتاب الشباب في الكثير من سلوكياتهم وتصرفاتهم اليومية.
استندت الرؤية الاخراجية للمخرج الفاضل الجعايبي الى الحفاظ على بيئة النص الاصلية، باعتباره نصاً المانيا وان احداثه تحدث في مدرسة هناك، وان عقدته الاصلية هي التطرف والغلو عند شاب مسيحي الديانة، وهو بذلك لم يؤكد محليته بقدر ما يعزز كونية الفكرة واحتمالية حدوث هذه المشكلة في اي من المجتمعات الانسانية الاخرى، وكان صادقا في التركيز على تعميمها باعتبارها قضية تواجه العالم ويجب عليه مواجهتها بشتى الطرق.
واعتمدت ايضاً رؤية المخرج على تعرية كل الشخصيات التي يتناولها النص وتقديمها بوجوه مكشوفة وتواريخ واضحة وابعاد معلنة، وكان يشعل في كل حين اضواء كاشفة لفضح أفعال تلك الشخصيات ونزواتها في محاولة للولوج الى اعماقها بوتيرة محتدمة تعدو تصاعديا نحو مصائرها.
يُنذر العرض ومنذ لحظاته الاولى بانفتاق قلقٍ دائم على الخشبة واحداث متسارعة تشي بالكثير من الحقائق وتحمل الكثير من المفاجآت، مركزا على تصوير التناقضات، التي تعاني منها الشخصيات وخلق مناخ مناسب لصراع ازلي بين افكار وايديولوجيات لا يمكن ان يتم التزاوج بينها.
اعتنى العرض كثيرا في تأسيس وتأثيث مكانه (المدرسة) بعلامات اشارية دالة، معتمدا على الاقتصاد في ذلك والتركيز ما تنتجه تلك العلامات من وظائف متعددة وتشكيلات معبرة تعكس صورا اخرى لذلك المكان كما يراها المخرج .
واستعان العرض بتقانات فنية وادائية توحي بالتهكم والسخرية وتقديم كوميديا سوداء، غلفت الكثير من مواضع العرض وكانت بمثابة آلية فنية تم من خلالها تمرير الكثير من الاحالات القصدية لمعانٍ مستترة خلف الخطابات السمعبصرية.
وقد ركز العرض على المزاوجة في بث رسائله الفنية والفكرية ومحاولة خلق حالة من التوازن في تحقيق ذلك بحرفية عالية، اعتمدت على انضباطٍ عالٍ لإيقاع العرض بكل عناصره، التي اشتغلت ضمن منظومة فنية تسير بنسق عالي الدقة والإحكام، وقد تجلى ذلك بالاشتغال على تقديم الكثير من المشاهد التي نفذت بعناية فائقة، خاصة مشهد الصليب الذي يتوهم فيه (بنيامين) انه امتزج مع روح السيد المسيح وان الرب سيرفع روحه اليه.
لقد كان خيار المخرج الفاضل الجعايبي في تقديم هذا العرض بهذه المجموعة من الممثلين الشباب خيارا، يمتلك الكثير من الجرأة والتحدي ومحاولة اثبات امكانية تقديم عرض مسرحي متقدم بممثلين شباب، استطاعوا ان يجعلوا من الخشبة ملعباً لهم قدموا فوقها كل ما من شأنه ان يحسبهم من الممثلين الكبار الاكثر اندفاعا وحماسة في لعب هذه الادوار المركبة، التي اجادوا في تجسيدها وكشف ازماتها ومعاناتها بقدرات ادائية عالية، استندت لرؤية اخراجية باصرة لتقترح الكثير من المستويات التأويلية التي تغلف فضاء العرض.
وبالتالي يمكننا ان نقرأ عرض مسرحية (مارتير) باعتباره عرضا رؤيوياً يتنبأ بمستقبل الانسانية، التي غابت عنه القيم التربوية التي تعمل على استقامته وقوامه وجاء، ليدق ناقوس الخطر محذرا من ذلك وليلقي المسؤولية امام كل المؤسسات التربوية والتعليمية في تذكر مهامها في بناء جيل واعٍ يعمل على بناء مجتمعات
متطورة.