(في حضرة لوسيفر) الثقافي

ثقافة 2021/01/12
...

د. سمير الخليل
 
في رواية (في حضرة لوسيفر) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء- بغداد تتحفنا الروائية «سمية علي رهيّف» بتوصيفات تراثية- شعبوية عن الشيطان، فهو إبليس في الكتب السماوية التوحيدية، وهو «لوسيفر» في الموروث الأغريقي- اليوناني القديم، وهو ملك الظلام في الأساطير الهندية، وهو إله الشر في الديانات الآسيوية والأفريقية الكبرى، وهو شعبوي ذو توصيف (سوسيو- ثقافي)، فهو يمثل كل من يبعد الناس عن طاعة الله أو منطق الحق، وكل من يغري بالمعصية ويحاول أن يدفع الإنسان لارتكاب الشر.
قامت الرواية برمتها على ربط الفقر بالشعوذة وممارسة السحر والتقرب إلى الشيطان، فالفقر يورث الهمّ والتعب والمرض والفاقة والابتعاد عن سبل الخير والرشاد والسلام والحياة الكريمة، وليس أمام الفقير غير الموت أو الوقوع في أحضان الشيطان وممارسة كل ما من شأنه أن يبعد غائلة الجوع، فانعدام فرص العمل الخير المنتج تؤدي إلى اللجوء للبحث عن فرص العمل الشرير المؤذي، وهذا مفتاح الربط الأيديولوجي الصائب بين الإرهاب والجوع، وبين ممارسة العنف والجريمة وبين الحاجة والعوز، ولنا في التأريخ العربي- الإسلامي الكثير من المقولات والقضايا والمسائل، التي عالجت هذه المشكلة بمعادلات منطقية وصورية تتطابق مع عنف الواقع المعطى.
وهو واقع سياسي بامتياز، ومنها معادلة الصحابي «أبو ذر الغفاري» (t) وقد صرح بها في قلب الدولة الأموية – دمشق، وسمعها أميرها “معاوية بن أبي سفيان” وكل خلانه ومستشاريه وارتعبوا منها، وشكوه إلى الخليفة الراشدي الثالث “عثمان بن عفان” (t)، مما أدى إلى استدعاء أبي ذر الغفاري وجلبه إلى المدينة المنورة، ومن ثم نفيه في الصحراء القاحلة، إلى أن قضى نحبه هناك، ومعادلته النظرية الصارمة جاءت كمنفستو ثوري راديكالي: “عجبت لامرئ لم يجد في بيته خبزاً ولم يخرج إلى الناس شاهراً سيفه”.
فالجريمة، إذن، هي ابنة الجوع، والجوع هو القاتل الحقيقي، وما الإنسان إلا أداة القتل المنفذة. وما تقربه إلى الشيطان أو عبادته، مثلما جاء بإحدى فقرات الرواية، وممارسة السحر الأسود والسحر الأحمر، وتسخير الجن والهولات والأشباح والأرواح الهائمة، إلا أساليب وتقانات تساعد الجائع على ارتكاباته وتسهل له سبل انحرافاته
 الخطيرة. 
أما الشخصيات أو الناس الذي رآهم “سيف” (بطل الرواية) وهم يتجولون في المقابر والأماكن المهجورة أو يحومون حول خاله ومعلمه وولي نعمته “حرب” الساحر الأوحد والأقوى في المدين،ة، أو الذين احتك بهم في المحافل والاجتماعات الخاصة التي يعقدها عبدة الشيطان ومريدوه 
فهم أنفسهم من رآهم في الحياة العامة، وقد اعتقد بقوة أنهم يمثلون الطهر والكرامة أو القدسية، وهم أشخاص بغض النظر عن المكان والزمان اللذين جمعاه بهم، وهم يمثلون المجموع الكلي للشخصيات الاجتماعية، وما اكتشفه هو أن الحقيقة البشرية أكثر تعقيداً وصعوبة مما يظهره هذا التفاعل الاجتماعي، فالحقيقة البشرية الصحيحة في الغالب تختلف عن الواقع الاجتماعي اليومي. 
لقد جرى إخباره بأنه سيدخل إلى “لغز الخطيئة”، إلى ضمير “الذنب السري” للآخرين، وبما أن الشرّ هو طبيعة الجنس البشري، فإنه يجب أن يكون سعادتهم الوحيدة!!
المشكلة في تلك “اللُّغة الشيطانية” في خطاب الرواية الثقافية هي أن المؤلف الحقيقي لم يوضح ما هي طبيعة “الشرّ” أو “الخطيئة” ؟ وقد يفسر الكثير من تلك المقولات بشكل حرفي، إشارة إلى تشاؤم “سمية علي رهيّف” ، وخاصة عندما تبنت منذ بداية الرواية، وهي ترسم شخصية البطل “سيف”، المذهب القائل بأن قدر الإنسان مرسوم قبل ولادته. ومع أن هذا غير معقول من الناحية الواقعية، أن يكون كل فرد في المدينة شريراً ومخطئاً، أو أنهم خاضعون جميعاً للشيطان، حتى المتدين منهم. فإن كلمتي “الشرّ” و”الخطيئة” هنا يجب أن تفهما بطريقة عامة أكثر من مجرد كشف لإثم معين، فإذا عددنا قصة المرأة الشيطانية “نصيبة” زوجة خال البطل “سيف” قصة معرفية لاكتشاف الشر كما وردت في الرواية، فربما من الجيد مقارنتها بتلك القصص البدائية لاكتشاف الشرّ في المرويات الدينية والأسطورية القديمة.
إن أفضل اقتراح نافع نقدمه لفهم هذه القصة، وكذلك الرواية ككل، هو نظر الشخصيات إلى الواقع على أنه الخزي بعينه، الخزي المحض، إن الحرّي الذي لف الشخصيات واكتنف عقلياتهم له معنى أعمق من مجرد الدلالة على ولادة الشرّ وتبعثر الكينونة الواحدة المتراصة للواقع إلى كينونات وكيانات متصارعة متقاتلة مع بعضها البعض، محكومة بالانفصال والتشرذم، تلك هي الطبيعة الحقيقية للخزي المعمم التي اكتشفها الشاب “سيف” للواقع البشري، ولكن بعد فوات الأوان، ففي الختام قدمه خاله كقربان بشري للوسيفر العظيم ، إله الشر وسيده ومدبره، عرفاناً وتقرباً
 وتزلفاً.