مــوت الشعـريــَّة الـعـراقـيَّــة وانـحـسارهــا شعراء ونقاد: تغير وظيفية القصيدة يخضعها للعبة السياسة
ثقافة
2021/01/13
+A
-A
استطلاع: يوسف محسن
نطالع في العالم الحديث أزمة وانحسارا كبيرين يضربان الحقل الشعري ليس في تداوليته فقط، وانما في عدد ما يباع من كتب الشعر أو ما ينشر، إذ سادت الروايات الخفيفة والوسائط التقنية الجديدة، هذه الظاهرة سادت الثقافة العراقية واختفى الشعر من التداول الجماهيري وبروز الشعر العامي المرتبط بالطقوس والعادات، إذ اصبح الشعر بضاعة كاسدة بسبب عوامل مركبة والتآكل المستمر للذائقة بسبب الحروب والحصارات، وربما كانت الهزّات السياسية والاجتماعية والثورة التكنولوجية التي تهيمن على المشهد العام ما يحدث اليوم هو أن الشاعر الحقيقي يواجه أزمة قرّاء، فضلا عن ذلك إن شروط كتابة الشعر قد
اختلفت.
تغير في وظيفة الشعريَّة
الشاعر العراقي عدنان الصائغ يقول: أتركُ مفتتحَ سؤالك الذي قد تختبصُ فيه التوصيفاتُ ومن ثمَّ الإجاباتُ، صعوداً أو هبوطاً، ذلك لأنَّ نجوميةَ الشعر والشاعر مسألةٌ نسبيةٌ لا تقاسُ بلايكات الفيسبوك أو عَجاج النقد والخ. إذ يمكن لشاعر أو شاعرة مبتدئة أن تحظى بأكثر مما تحصده الأعمال الشعرية لحسب الشيخ جعفر أو أدونيس.
وإذ لم يبع وقتها من ديوان "أزهار الشر" لـ"بودلير" سوى 15 نسخةً، وإذ وصف النقاد رواية "يوليسيس" لجيمس جويس بأنها من "أدب المراحيض". فالثيمةُ الإبداعية - لأي نصٍّ أدبي أو عملٍ فني- تتخطى التصنيفَ النقدي والتلقي والذائقات وسلالم النجومية بل تتخطى الزمان والمكان. وعلى ضوء هذا أزيحُ هذا الركام الذي يسودُ الساحة الثقافية اليوم لأجدَ بعض التجارب العراقية الأصيلة المضيئة تجترحُ مفازاتٍ جديدةً ومذهلةً في الشعرية العربية حتى والعالمية رغم ما تعانيه من تهميش وصعوبات جمة تحول من دون وصولها وتواصلها. فتتحرك مساراتها بتشكيلات وفضاءات مبتكرة قادرة على استيعاب تجليات الفكرة، وتمرد الصورة، وكسر التابوهات القديمة التي حنّطت فكرنا وشعرنا لقرون طويلة بمسميات عديدة.
هنا يأخذ النص دوراً وحركة وبعداً آخر لا يمكن تقييمه بالمعيار القديم. بمعنى أن القصيدة التي كان يلقيها الرصافي أو الجواهري لتحرك الجماهير الثائرةَ خلفه، ما عادتْ هي نفسها القصيدة التي يشتغل وينشغل بها الشاعر اليوم ذلك لأنها تذهبُ بغاية أكبر من الحماسة.
تذهب الى فكر القارئ وروحه معاً لتجاورهما لتحاورهما لتوسّع من دائرة الاستشراف الباهرة وهذه مهنة ليست سهلة على الاطلاق كما أنها لا تفكر بعدد اللايكات ولا سلّم النجومية، انعكاساً وتلخيصاً لما صرخ به أزرا باوند ذات يوم: "أعينوني في أية حرفةٍ، عدا هذه الحرفة اللعينة، حرفة الكتابة".
مسارات متعددة
ويرى الشاعر عبد الأمير خليل مراد:أنّ النصوص الشعرية تتفاوت في جودتها وسموها الإبداعيّ عند الشاعر نفسه، وحتى المتنبي في سموّ قامته الشعرية نجد بعض قصائده لا ترقى في أدائها وفنّيتها إلى قصائده الأخرى، فقصيدتاه (وآحر قلباه)و (بأبي الشموس) ذات امتياز خاص، في مجمل تجربته الشعريّة. لذا يمكن القول إنه لا يوجد شاعر كبير ولكن يوجد نص كبير،قد توزّعت الشعرية العراقيّة بين مَسارب كثيرة، فما زال الكثيرون متمسكين بقصيدة العمود ويعدونها من أهم ركائز الشعر العراقي، ويكتبونها تقليداً أو نحتاً على التجارب السابقة كالجواهري وعلي الشرقي وبدوي الجبل وعمر أبي ريشة، ونزار قباني ناسين أنّ قصيدة العمود الجديدة ينبغي أن تتأسس على الكلاسيكيّة الجديدة، في تحديث اللغة والرُّؤية الإنسانية، فلم تعد نظماً أو اجتراراً لتجارب السابقين.
ونرى الأجيال الجديدة غارقةً في أوهام الحداثة التي لم يعوا اشتراطاتها وتمثُّلاتها الحضارية،إذ اجترحوا أساليبهم وطرقهم في اللجوء إلى قصيدة النثر، وهي فنٌّ من أصعب فنون الكتابة وإن كانوا يتوسلون طريقهم في الخطوات الأولى وإن لم يُتقنوا عروض الشعر العربي أو يتمكّنوا من أدواتهم في النحو واللغة وانبهروا بالتجارب الوافدة أو ترجمات الشعر إلى العربية.وهنا، نرى الشعراء المجددين والروّاد لم يتبقَ من تجاربهم إِلا الشيء القليل وسط هذا الطوفان الطاغي من الأدعياء وفقيري الموهبة، فانكفأ الكثير منهم إلى المقاعد الخلفية، وأصبحت تجاربهم مقتصرة على الأكاديميات وقاعات الدرس، ولم نعد نرى لهم ذاك الحضور البيّن في فضاء الثقافة اليوميّ.إنّ الكثير من التجارب الجديدة تُحاول الاستحواذ أو الاستئثار بفرص الظهور المجاني على الساحة الثقافية، وإن كانت لا تملك تلك التجارب المائزة، أو الثقافة الحقيقة في كتابة نصٍّ مختلف، ومنهم مَن يتعكّز على منصَّات التواصل الاجتماعيّ في تسويق ذاته، وهذه المنصّات لا تميز الغثّ من السمين، فبعضهم لا يعي شيئا من الإملاء أو النحو وهو يغرّب ويشرّق في الإعلان عن بضاعته، وإن كانت تلك البضاعة لا تُفصِح عن موهبة استثنائية أو احتراف مدروس. لقد بات الكثير يمارس دوراً فلكلورياً في ثقافتنا الراهنة،إذ تتجاذب مسارات الشعرية الأهواء والطموحات العابرة على حساب الفن الحقيقي، وإذ تتحرك مسارات التجارب الجديدة في فضاءات التشظي والإعلان المجانيّ، وهم يتوسلون الوصول إلى القمة من دون أن يتوفروا على أدوات الكتابة الناضجة والممارسة الحية في سبيل الارتقاء بهذه التجارب، فنفتقد في مضاميرها حرارة التجربة والالتحام بالواقع، وكأنها تجديفات واهنة لم تصمد أمام المعاينة النقدية والاختبار
المنظور.
أدوار الفلكلورية
وبيَّن الشاعر الحسين بن خليل رئيس نادي وتريات قصيدة النثر "أن المسرح الثقافي لم يعد كما كان بالأمس تحركه المنصة أو الكتاب، ولا أيضا الخطاب الرسالي في مضمون القصيدة، فالشارع بدأ ينحاز الى المحركات السريعة الموجهة للمتلقي عكس الشعر الذي يضع رسالته بطريقة تراكمية في نفوس الجماهير، كان الشاعر في السابق هو الصوت المتحرك والمسرحي، هو مكبر الصوت؛ لذا نجد أن للرسالة تغذية عكسية وتواصلا نفسيا بين الشعر والجمهور، الأدوار الفلكلورية هي آخر ما بقي للشاعر، فبعد تأثير فعال اصبح بلا سلطة من حيث التأثير فأخذ يبحث عن الفلوكلور ونظرة المجتمع للشاعر، من ثم لم تعد هناك مساحة لخلق مسارات شعرية عراقية او عربية تخلق من اي شاعر رمزية خاصة وتفردا، فاليوم حداثة الشعر والاجناس الأدبية فرضت ايقاعا خاصا لنوعية الرسالة التي يصنعها الشاعر وهذا الايقاع لا يصل للجمهور وان وصل فإنه لا يؤثر سوى في النخبة، لذا نجد أن لا شاعر بالنسبة للجمهور، عكس ما نشاهده الان في الشعر الشعبي العراقي، القطيعة بين الجمهور والشعر يجب انهاؤها من خلال رفع مستوى إدراكه ليلحق بالتطور الفني للشاعر".
لعبة السياسة وتغيرات الفضاء العام
أما الشاعر صادق الطريحي فيوضح: يبدو لي أنّ للأوضاع السياسية المتغيرة، تأثيرًا قويًا في الشعر والشعراء، بل في عموم الأدب والفن، وربما كان هذا التأثير محصورًا في المنطقة العربية، لا غير؛ فغالبا ما نرى في واجهات الدولة، أو الأحزاب، بروز شعراء، وانسحاب آخرين مع كل تغيير سياسيّ، عسكريّ، ويبدو لي كذلك أنّ السلطة (الحاكمة أو المعارضة) والشعراء يتواطؤون على الإفادة من بعضهم البعض بطريقة غير معلنة. فمثلًا هناك من يتحدث في الكواليس، أو العلن، عن أيادٍ خفية دفعت إلى الواجهة بقصيدة النثر، لمواجهة شعراء آخرين مختلفين في الولاء السياسيّ مع السلطة، وهناك من يتحدث العكس، فيقول إنّ أيادٍ خفية تدفع بالشعر العمودي إلى الواجهة، لأغراض عقائدية، دينية ومذهبية!! ولا شكّ في أنّ أيّ ارتباطٍ بين الشعر، والسلطة، والعقيدة، يجعل الشعر يأخذ بريقا مؤقتًا، لا يلبث أن يخمد، وربما حتى مع بقاء السلطة!!وثمة سبب آخر لانسحاب الشعر من الفضاء العام، وهو الصحف الثقافية التي تجعل للشعر مجالًا ضيقا، وتفسح المجال للأخبار أو المقالات النقدية، أو عرض الكتب، .. وثمة صحف أخرى تفعل العكس حين تحشر الكثير من (الشعر) في صفحة واحدة، لتضيع متعة الشعر الحقيقة!!،ولقد غاب الشاعر المتفرد عن الساحة العربية أيضًا، فليس ثمة شاعر يستطيع أن يعيش حياة طبيعية، ولا أقول مترفة، استنادًا إلى مردوده المادي من مبيعات كتبه، وربما كان الشاعر نزار قباني هو الشاعر الوحيد الذي استطاع ذلك، فأنشأ له دار نشر خاصة (منشورات نزار قباني) لنشر وتوزيع كتبه!!، وأنا أرى أنّ التجمعات الأدبية، أو البيانات الشعرية، المستلة من البيانات العسكرية، بعد منتصف القرن العشرين، لن تنتج شعرًا حقيقيا؛ إنّ الشاعر الحقيقي المتفرد هو الذي يجعل قصيدته بيانا أدبيًا خالصا لوجه
الشعر!!.