الأفــنـدي

ثقافة 2021/01/13
...

د.عبدالحسين علوان الدرويش

لم يكن (صبري أفندي) قد ذاع صيته إلا من خلال حنجرة المغنية (صديقة الملاية)، التي راحت تصول وتجول بترنيمات هذه الأغنية حتى ملأت الساحة الفنية الشعبية بترديداتها، الى درجة بات كثير من الناس، يحسبون أنَّ لهذه المغنية، أكثر من وشيجة عاطفية مباشرة مع (صبري أفندي)، وذلك لفرط ولعها بالأغنية، وتغنجها بمفرداتها، حتى لَيَخال المستمع إليها كأنها تنبع من شغاف فؤادها لا من حنجرتها، وهي تصدح بصوتها الرخيم (الأفندي الأفندي عيوني الافندي.. الله يخلي صبري صندوق أميني البصرة) وكانت الكثيرات من المغنيات اللاتي يغنين هذه الأغنية في الأعراس والأفراح، يعمدن الى تغيير اسم (صبري) باسم صاحب المناسبة من باب المجاملة واكتساب رضاه.. وقد غنت هذه الأغنية أكثر من مطربة بسبب شخصية صبري المتميزة، إذ كان حسن الهندام، وسيم الطلعة، فارع القامة، معتدلاً في حياته، وفي طعامه وشرابه، محافظاً على رشاقته ونظافة ثيابه، وكذلك كان مثلاً في الأناقة وسلامة الذوق، والمظهر الباهر، والخلق الرضي، وكل هذه الصفات المميزة لصبري، أوقعت في حبه كثيراً من العذارى، فتهالكن عليه يطمعن في لفتة منه أو ابتسامة، وهو بهذا الحال لمْ يَلقَ بالاً للمغريات، لكن عندما كانت عمتي تريد أن تغيظني بشدة فتغني أغنية (الافندي الافندي عيوني الافندي) وكنت حينها في الدراسة الابتدائية، والطامة الكبرى التي لاتزال تدق في ذاكرتي حتى الآن، لماذا تفعل عمتي ذلك؟
والأسئلة التي ظل صداها مدى السنين من دون تفسير منطقي، ماهي علاقتي بهذه الأغنية؟ وأنا لا أعي كلماتها البسيطة على الرغم من حلاوة نغماتها الموسيقية، وما الذي يغيظني من (الله يخلي صبري صندوق أميني البصرة)..!! لطالما أرقني هذا الأمر الغامض، فقد قضيت سنين طوالاً أجيل الفكر واستنطق الذاكرة علّها تسعفني بشيء ينير لي الطريق في هذا العماء الموحش! لكن.. رغم كل المحاولات.. ظل السر دفيناً لم يستطع أحد كشف حقيقته التي ظلت عصية على أفهام الجميع حتى الراسخين في العلم !!.
وتستمر عمتي في الغناء بصوتها الرائق العذب، والتصفيق وطق الاصبع، وتكرر المقطع الغنائي أكثر من مرة.
وأنا في حالة هستيرية من البكاء الحاد والعويل والصراخ القوي، ويعلو صوت صراخي كمن أصابه مسُّ من الجنون، حتى يغطي صداه شناشيل بيتنا العتيق. وبعد ذلك أقع على قفاي رافعاً ساقيَّ الى الأعلى مطوحاً بهما في الهواء، وكأنني أرفس عدواً مخيفاً، رابضاً عليَّ كأسد بابل، وقد تمر ساعة أو أكثر، وأنا في هذه الحالة المزرية.!! الى أن يبح صوتي وترتخي حبالي الصوتية، ويقل غضبي تدريجياً، ويضمحل استفزازي، ويعود هدوئي وصمتي المطبق، الذي كان مهاجراً من (صندوق أميني البصرة)..؟؟
وبعد حقبة زمنية متوالية الأحداث والنكبات والجروح، كعربة السنين التي تجر بخيولها المتعبة بقية العمر المتآكل بنخر الحروب والحصار والإرهاب، حتى تشظينا في منافي الغربة في كل بقاع الأرض، اتصلت بابنة عمتي، التي هاجرت الى الخارج، وكنت بشوق عارم، ولهفة وسعت السموات والأرض، لأسمع أخبارها، وأطمئن على حالها.
استمر الحديث بيننا، ساعة تقريباً، وفجأة ومن دون سابق إنذار، أخذت تردد الأغنية (الافندي ..الافندي) بصوت كصوت عمتي المرحومة بالضبط!
وفي تلك اللحظة، اشتعلت النيران في جسدي، مثل شجرة عجفاء يابسة، مستها حرائق الغابات، حتى أصبحت عيوني تقدح جمراً متقداً، وتنزِلُ دموعي على وجنتي ساخنة لاذعة، ولم أتخلص من هذا الموقف الحرج، فقمت على الفور بإغلاق الهاتف الخلوي!.