نبوءة ماري شيللي عن الجائحة وانقسامنا إلى طوائف متناحرة
ثقافة
2021/01/13
+A
-A
ألان كوفي
ترجمة: جمال جمعة
العديد منا أصابه الفزع من السرعة التي غيّر بها قدوم الفيروس التاجي حياتنا ومدى دراماتيكية تلك التغييرات: المرض المستفحل، إغلاق المدارس، أوامر البقاء في المنزل، البطالة الجماعية، وحزم التحفيز الحكومية الهائلة.
لكن ثمة آخرين تنبؤوا بحالة طارئة مثل هذه. قبل 200 عام تقريباً، تساءلت ماري شيللي كيف يمكن للمجتمع أن يكون مستعدًا لمواجهة جائحة عالمية. رواية شيللي الثالثة (الإنسان الأخير)، المكتوبة في عام 1826 وتدور أحداثها في عام 2100، تروي قصة طاعون فتّاك بدأ في آسيا وانتشر بسرعة عبر الكوكب من خلال السفر والتجارة. تحليلاتها واستنتاجاتها يتردد صداها بشكل خارق للطبيعة في وقتنا الحاضر.
في (الإنسان الأخير)، تنشئ شيللي مجتمعًا ذا مؤسسات ضعيفة وسكّان منقسمين، ومن ثم تستعرض ما يحدث عندما يواجهون وباءً مدمراً يودي بحياة الجميع تقريبًا. وفي حين أن جائحة اليوم قد تكون أقل فتكًا، إلا أن الكثير مما ورد في الراوية دقيق في توقّعاته.
تدور الأحداث في بريطانيا، في مجتمع شيللي المستقطب، ثمة حزبان يهيمنان على المشهد السياسي: حزب الثراء والنفوذ وحزب الشعب الديمقراطي. النقاش العام يصبح فئوياً ولاذعاً؛ ويشعر الكثيرون أن البلاد على حافة التفكّك. المُثُل القديمة للجمهورية (الحرية، الاحترام المتبادل، والفضيلة المدنية) يقال إنها قد "أضحت بالية"، والحزبان يصلان لطريق مسدود بشأن كيفية إدارة البلاد، مع عدم وجود أغلبية مهيمنة لأيّ من الطرفين. حينئذٍ يستغلّ شعبويّ كاريزمي إنهاك الجماهير وضعفها الفطري إزاء "البهرجة والاستعراض" بينما هو غير قادر على التحكم بعواطفه وطموحاته
الشخصية.
عندما تندلع أنباء الجائحة لأول مرة، بدلاً من العمل على تطوير رد موحد عابر للأحزاب، فإن الحزب الحاكم (الديمقراطيون هنا) يخفي وينكر جدية الطاعون في محاولة لضمان أجندته الحزبية. برنامجه الظاهري هو تحقيق المساواة في المجتمع ومساعدة الفقراء. لكن بما أن الجائحة أصابت الاقتصاد بالشلل، فإن الحكومة لا تملك الأموال اللازمة. وللبقاء في السلطة، يحتاج حزب الإصلاح إلى دعم حزب الثروة لتمويل برنامجه. ينتهي الأمر بالإصلاحات إلى أن تكون تجميلية بصورة عامة، والأثرياء "يحصلون على كل ما يريدون" مقابل مساعدتهم.
قبل الجائحة، بدا المجتمع منقسمًا بشكل أساسي بسبب الصراع الأيديولوجي والاقتصادي. مع تزايد الدمار، توضح شيللي أيضًا كيف أن المجموعات المختلفة من الناس تكره بعضها بعضاً بسبب انتمائها إلى مجموعة "أخرى".
في خاتمة الرواية، تصف مستعمرة أسسها ناجون بريطانيون في شمال فرنسا المهجور. ينقسم السكان فيها إلى فئات متعصبة، ليس على أساس الأفكار أو القيم ولكن على أساس مسألة تافهة، وهي من الذي وصل إلى المستعمرة أولاً. أولئك الذين وصلوا في البداية شعروا بأنهم متفوقون ويعتقدون أنه ينبغي عليهم أن يحكموا البؤرة الاستيطانية. الوافدون الجدد يستاؤون من ذلك ويشكلون كتلة منافسة. على الرغم من عدم وجود فرق حقيقي بين سياساتهم، فإنهم يكنّون "كراهية عنيفة ضد بعضهم البعض".
وبينما تتقاتل الفئتان، تستشري مجموعة ثالثة وتصعد إلى السلطة: أتباع متعصبون لدجّال دينيّ يعِد بحماية الله من المرض، وبالازدهار والامتياز الاجتماعي لأولئك الذين يشعرون أنهم فقدوها. كل ما يطلبه في المقابل هو الولاء التام والطاعة. إنه يستخدم لغة الدين ليحقق بلا رحمة طموحاته الشخصية وتعظيم ذاته من دون وازع أو ضمير.
الحبكة تتحرك من خلال معتقدات شيللي للجمهوريين الجدد، المعتقدات التي أثّرت على واضعي دستور الولايات المتحدة. تؤكد هذه الأعراف على سمتين ضروريتين للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والحرية الفردية: مؤسسات سياسية متينة، ومستوى عال من الفضيلة المدنية بين المواطنين.
من خلال المؤسسات، اعتزم هؤلاء المفكرون إنشاء هيكل سياسي من الضوابط والتوازنات (مبني على سيادة القانون، وفصل السلطات، والحوار العام النشيط ولكن البنّاء) يسخّر شغف المواطنين الطموحين وطاقاتهم، ويوجه طموحاتهم الشخصية نحو المصالح المشتركة للمجتمع. ويشمل ذلك رئاسة الجمهورية، الكونغرس، القضاء، والنظام الديمقراطي. ولأن هذه المؤسسات لا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا احترمها المواطنون، فإن الأعراف تؤكد أن الحكومات يجب أن تخلق بيئة يمكن للناس فيها تعلّم الفضائل المدنية: الاحترام المتبادل، النقاش بحسن نيّة، الالتزام بالصالح العام، وحبّ الوطن. هذا هو المتوقع أن يتم توارثه عبر المدارس العامة، الكنائس، والمنظمات المجتمعية، فضلاً عن السياسات القائمة على المساواة والتي تمنع الفقر المفرط أو الغنى المفرط.
ما تضيفه شيللي هو نظرة عن كثب إلى كيفية تفاعل السيكولوجيا البشرية مع المؤسسات السياسية، منتقدة الفكر الجمهوري المبكّر في القرن الثامن عشر. عدَّ مفكرون مثل كاثرين ماكولاي أو ريتشارد برايس، اللذين أثرا على واضعي الدستور في الولايات المتحدة، أنه من المسلّم به أن تكسب الحجة المنطقية القلوبَ والعقول. شيللي ليست لديها مثل هذه الأوهام. في العوالم التي تخلقها، سيظهر حتماً شخصٌ ما لاستغلال الفرصة، ما لم تقيّده مؤسسات ذات دعم شعبي. والتي بمجرد إنشائها، فإن الانقسامات الطائفية قد لا يمكن احتواؤها بسهولة؛ فلربما تفضّل الأطراف القتال حتى النهاية المريرة (حتى لو كان ذلك يعني نهاية البشرية) بدلاً من الوفاق.
كتبت زميلتي المتخصصة في أدب شيللي، إيلين هانت بوتينج، في مكان آخر (صحيفة نيويورك تايمز، وسنترجمه لاحقاً. ج ج) عن تمثيل شيللي للفضيلة السياسية الفردية في (الإنسان الأخير)، قائلة إن البطل المسمّى "يدرك أنه حتى لو كان آخر إنسان على وجه الأرض، فعليه أن يعيش كما لو أنه ليس كذلك". على النقيض من ذلك، فإن الدجّال يعيش كما لو كان هو الشخص المهم الوحيد، ويعامل المستوطنة على أنها سبيله إلى المجد الشخصي. إنه يحرّض المستوطنين على بعضهم البعض لكي يغفلوا عن قيمهم ويدمروا بعضهم بعضاً قبل أن يدمرهم الوباء. الاقتتال الداخلي بين هؤلاء المستوطنين يحرمهم حتى من الكرامة عند الموت.
في النهاية، تعتقد شيللي أنه من دون سلطة مؤسسية يمكنها كبح مثل هذه الفصائل (على سبيل المثال، حكومة تفرض الاحترام) فإن الطموح الشخصي سينتصر على الحجة المنطقية والقيود الأخلاقية، بل وحتى على غريزة حفظ النفس. إن الرغبة في السلطة والأمل في أن يذكره التاريخ بوصفه "بَطريركاً، أو نبيّاً، أو بالأحرى إلهاً" تقودان الدجّال إلى مواصلة كفاحه "حتى آخر فصل"، وإن دمّر المستوطنة معه.
تحليلات شيللي قاتمة، لكنها تبعث على الأمل أيضاً. إنها لا تعتقد أن البشرية كلّها مدفوعة بطموح أناني، ولديها إيمان عظيم بالقيم الليبرالية المستنيرة. لكنها ترفض أن تغضّ الطرف عما سيحدث ما لم تحرس المجتمعاتُ مؤسساتها المدنية والمبادئَ المرافقة لها بغيرة وحماس.
The Washington Post