هواجس السرد في نواقيس العزلة: «تبًا للروايات»

ثقافة 2021/01/15
...

دعد ديب 
 
العزلة مختبر نفسي لمحاكاة الذات واستبطان أغوارها، وهي مفهوم ملتبس يلمح بالفراغ ظاهرياً، ويحتشد بداخله ما يستقر في قاع النفس من عواصف وعواطف وانكسارات وانهيارات، وكنوع من الهروب من سواكن العزلة تفتتح الإماراتية لطيفة الحاج عملها الروائي نواقيس العزلة – الصادرة عن دار مداد 2019، بعتبة نصية تحمل معاني التساؤل والحيرة وتوحي بأكثر من مدلول، وكأنها مفتاح لأبواب النص الذي يشي بكوامنه.
عن تلك الأجراس التي تدق في عوالم التوحد والانعزال، لنسأل عن الهاجس الذي يكتنف عالم الساردة الوحيدة في العمل، لنتسلل بعدها للعنوان الفرعي «تبًا للروايات» لتقلب توقعاتنا رأس على عقب بكل ما احتسبنا له وحاولنا تفسيره، فالمرأة المهووسة بالروايات تكابد وهي تحاول أن ترى ظلالها في حياتها الخاصة، وهي لا تعي لوهلة أهمية هذا التعلق بالحكايات، أهي نعمة أم لعنة، ويا للتعب عندما لا تحظى غالبًا برهافة وحساسية ما تقرأ، شيئًا يشبه جنوح وتطاير المعاني الحالمة وتفتقدها حياتها الخاصة، ما يدفعها للقول تبًا للروايات التي تخلق هذا التناقض بين الواقع والحلم، بين ما تعايشه وبين المشتهى والمراد، هذه الكآبة انعكست كذلك في صورة الغلاف الرمادي الرفيق للطبيعة المترددة والمتوجسة في أعماق الساردة. 
علاقة المرأة بالرجل من زاوية إحساس المرأة الكاتبة والتناقض بين الشعور الفطري للأنثى وعادات وأعراف المجتمع القامعة مما يدفع بها للنكوص والانكفاء إلى عالم العزلة الداخلي الذي تعيشه، بغض النظر عن الوجود المادي الكثيف لأفراد أسرتها وابنها والخادمة وأسرة زوجها، هذا الانكفاء الذي انعكس في الرفيق الظلي لوحدتها كوزيمودو المستعار من «أحدب نوتردام» فيكتور هيجو، كوزيمو المرافق الدائم لها، شقيق أناها الداخلية، صورة ذاتها، هو صوت هواجسها وشخصيتها الموتورة بالصداع والكوابيس، وبين الحلم والواقع تنسج عوالمها الخاصة، كوازيمودو الجرس الذي يقرع في لاوعيها دائمًا، يتحول من قزامته إلى طفل آخر يجاور طفلها الحقيقي ويظهر في كل مفصل من متاعبها، وعندما غاب إلى الأبد أوصلتنا إلى يقين أن البطلة توحدت مع ذاتها، وهدأت إلى حد ما من القلق الذي يعذب روحها، عقب ولادتها لتوأميها الذين أسسا لحضورها الراسخ في حياة زوجها وأسرته، كمشكلة تعانيها امرأة أحست بكابوس العقم يهدد حياتها، لتبقى المساحة التي لم تقال من الكلام، ماذا لو لم تنجب ؟! ماذا لو كانت عاقرا؟ 
أين وجودها، أين مشروعها الخاص بها، وهي المرأة المثقفة والغنية والمتعلمة، فراغات كثيرة نجحت بإثارتها وجعلها معلقة في وعي القارئ، وأحجمت عن الإجابة، متنقلة بليونة وسلاسة بين جزر محاور نصها، بين الواقع وبين أفكارها وتهويماتها مع كوازيمو، ومع أبطال روايات زوجها راشد بذات الوقت. الأسلوب السردي عند صاحبة «مصباح الحمام» يحاكي قصص ألف ليلة وليلة على غرار قصة ضمن قصة أو تنفع كقصص قصيرة، حسب ما تجود بها تخيلاتها وتهويماتها، فعبر متابعتها لروايات زوجها تمررها كموتيفات ضمن العمل مثل الجميلة التي نبهها عشق عامل المطبعة بأنها جديرة أن تعشق بشكل مختلف، أو »لص النهار” الذي يسرق في وضح النهار ليأتي أخيًرا ويخطف محبوبته البكماء ويقفز بها من شباك بيتها، وسواها من العناوين ذكرتها لتبين انطباعها من خلال الزوج الكاتب الذي وجد نفسه في العمل الأدبي وتقصي وتدوين حيوات لمعذبين ومهمشين ممن رآهم، أو سمع عنهم، أو التقى بهم، وهو في خضم مشروعه الشخصي يغفل عن حياته الشخصية، وزوجته المتروكة للعادات والتقاليد والإنجاب والوساوس التي تنغص عليها حياتها، وهي في ملاحقتها لشخوص أعماله تفشل دائمًا في محاولتها إيجاد مكان لها في ذاكرته الروائية، حيث وجدت من كل أنثى في حكاياه غريمة لها في حياتها الواقعية، الأمر الذي جعلها تفتش في خلايا دماغه عما يشغل باله وهل ثمة عشق جديد في حياته وهل من طيف امرأة أخرى يداعب أحلامه، وكلها تعكس حالة اللاوعي عند المرأة التي تركن إلى حياة ملحقة بالرجل غافلة عن حياتها الخاصة، رغم امتلاكها لأدوات الوجود المستقل من شهادة وثقافة في عودة خفية لأعراف المجتمع وتقاليده وأحكامه التي تقصي دورها وتختزله في الأمومة والإنجاب وتأدية واجبات وخدمات للآخرين، التي تتوزع بين الزوج والأطفال والأب والأخ وسائر أفراد العائلة في استلاب لكينونتها الوجودية وأفق حياتها.
لطيفة الحاج وإن كانت اعتمدت أسلوب الراوي الوحيد للسرد بضمير المتكلم عبر مونولوج داخلي طويل، يتناوب بين سردها لحياتها الواقعية مرة وتارة في انجرافها لحالة الذهان التي تغوص بها إلى أعماق ذاتها، لتضيء على الزوايا المحركة لسلوكها في اتكاء على عالمها الداخلي التي أفضت إلى إحساسها العارم بالوحدة والبعد عن تحقيق ذاتها، واستطاعت من خلاله فتح الدائرة التي تحكم وعي شخوص عملها والتوغل بعوالمهم الداخلية متنقلة بين ذاتها من جهة وبين مجموعة كبيرة من الشخصيات المخالطة لها رغم المساحة الاجتماعية الضيقة المفروضة عليها، والتي تتحرك بها بحكم العرف والتقاليد، خلال نماذج لاضطهاد المرأة كشخصية صديقتها -فطوم- وللقارئ أن يلاحظ ويرى ويطابق على الواقع ويحكم ويفسر، فواقع المرأة سواء كانت غنية أو فقيرة غير عادل وغير مرضي، في مجتمع شرقي متنكر لهمومها النفسية وحقوقها القانونية والإنسانية، ولا تنسى أن تطعم نصها ببعض العبارات المسكوكة مثل (المرأة ليس لها إلا بيت زوجها) مختزلة بذلك صورة وعي جمعي لبيئة تنتقدها من خلال تبيان نتائجها على النماذج التي ترسمها، كما اعتمدت توظيف لافت لأبطال الحكايا الشعبية والخرافية (سويدة حصف- ام الدويس) لتكشف عن العالم الذكوري الذي يجمع الشرور بالمرأة الغاوية 
متناسيًا وجودها كإنسانة لها رغبات وأحاسيس خاصة بها، بالإضافة إلى العرف والتربية والعادات التي تمارس قمعها الممنهج والمزدوج على عقل وجسد المرأة.
يقول رولان بارت لا يوجد نص أصيل بشكل مطلق، وإنما يقوم بنيانه على حطام نصوص سابقة، بمعنى أن كل كاتب يستقي كتاباته مما تجمع في ذاكرته كحصيلة لمعارفه المتنوعة من ثقافات وفنون وادأب، فهو يأخذ ويضيف ويبدل ويرتب الأفكار حسب رؤيته الخاصة، فاتكاء الكاتبة على شخصيات روائية (مثل احدب نوتردام لفيكتور هيجو وشخصية غريغور سامسا في مسخ كافكا) وسواها يدل على مقدرة بتوظيفها في هواجس شكلت بنيتها الفكرية وخلفيتها الثقافية، فرواية لطيفة الحاج عمل تراكمي لنصوص قرأتها وتشكلت في وعيها وأعادت صياغتها بقالب فني له تميزه وخصوصيته في بناء عالمها السردي وتعريف المتلقي بصوت جديد يشق سبيله بقوة وسلاسة.