د. خالد هاشم
جاء الفارق الضئيل في الانتخابات الأميركية الاخيرة ما بين المرشحين جو بايدن ودونالد ترامب، ليعبر عن ذلك الانقسام الحاصل داخل الولايات المتحدة والحاصل منذ سنوات، فقد حصل بايدن على 51 % فقط من أصوات الناخبين، وهذا يعني أن انتصار بايدن مرشح الحزب الديمقراطي لم يكن كاسحا، وأن موجة تسونامي زرقاء لم تجتح الانتخابات الأميركية. من جانب آخر وبالرغم من هزيمة ترامب، إلا أنه حصل على 74 مليون صوت، وهذه يعني أن الرئيس ترامب قد خسر، لكن خسارته ليست مدوية، وهذا جعل أغلب مناصريه ينظرون للرئيس المنتخب بايدن على أنه رئيس غير شرعى، ويصدقون اتهامات ترامب بأن الانتخابات سرقت منه.
هذا الانقسام الذي اصبح ماثلا امامنا، أخذ يخفي تحته أشكالا وأبعادا وصورا مختلفة يمكن رصدها كالآتي:
في هذه الانتخابات، اختلف الأميركيون على قضايا الضرائب، وتوزيع الثروة، وإدارة أزمة كرونا، وهي اختلافات كان يمكن إدارتها لولا وقوعها على خلفية انقسام عميق طويل الأمد بين رؤى مختلفة لقضايا الهوية والعرق، والدين، وحدود الحرية الفردية، وهي اختلافات وصلت إلى إعادة النظر في التاريخ الأميركي ككل، الذي يعده التيار الصاعد في أميركا سلسلة من المظالم، بدأت بالمظالم التي تعرض لها السكان الأصليون، مرورا بالعبودية، وصولا إلى التفاوت الكبير بين الطبقات، ومظاهر ذلك تجلت في إزالة ومحو تماثيل وأسماء القادة التأريخيين، والمطالبة بمنع تمويل الشرطة، واحتلال حي المال والأعمال.اتهامات ترامب لخصمه بتزوير الانتخابات وسرقتها منه، هو أمر شديد الخطورة، لن ينتهي أثره ببدء تسليم السلطة سلميا، ففي استطلاع للرأي أجرته “بوليتيكو”، جاء أن 70 % من الجمهوريين يرون الانتخابات غير نزيهة، في حين قال 90 % من الديمقراطيين إنها كانت نزيهة، تشير هذه النتيجة إلى أن هناك نسبة تقترب من نصف الناخبين ترى أن الانتخابات لم تكن نزيهة، وأن الثقة في العملية الانتخابية ليست كاملة، وهو أمر شديد الخطورة في نظام قائم على سلامة الإجراءات بغض النظر عن نتيجتها، فعندما يتشكك هذا العدد الكبير من الناس في الاجرءات القانونية المتبعة في النظام الانتخابي، فإن النظام كله يصبح في أزمة شرعية، ويصبح من الممكن تحدي سلطة الرئيس المنتخب، فهي سلطة غير شرعية في نظر أولئك المتشككين في نزاهة العملية الانتخابية.
ويرتبط بما سبق سؤال، هو هل النظام الديمقراطي يعمل بكفاءة، أم أنه لا يعمل على الأطلاق، وهو السؤال الذي يتبنى الديمقراطيون والجمهوريون إجابات مختلفة حوله. فالديمقراطيون يرون أن النظام يعمل بكفاءة، ولم لا وقد فاز مرشحهم في النهاية. أما في رأي بعض الجمهوريين، فإن النظام لا يعمل على الإطلاق، وأنه تعرض لتلاعب وتاَمر قوض أركانه. هذا التباين الواضح في المواقف ما بين الفريقين هو أمر خطير للغاية، حيث يصبح النظام الجيد هو النظام الذي يفوز فيه المرشح المفضل، وليس النظام الذي يعمل وفقا لقواعد عادلة متفق عليها سلفا من الجميع. ومن أبعاد وأشكال الانقسام الأخرى، والتي لا تقتصر فقط على النظام الانتخابي الأميركي، هو تفاوت مشاعر الأميركيين من علم بلدهم، الذي لم يعد رمزا للولايات المتحدة يشترك جميع الأميركيين في احترامه والاعتزاز به، ففي سنوات حكم ترامب الأربع كان العلم الأميركي رمزا لليمين الأميركي وأنصار الرئيس ترامب، بينما تجنب الديمقراطيون رفع العلم، الذي رأوا فيه رمزا لخصومهم اليمينيين المهووسين، ورفعوا بدلا من ذلك أعلاما عدة تعبر عن موقف أيديولوجية، مثل رايات المثليين، والقبضة السوداء، ورايات تشي جيفارا. سيعود كثير من الديمقراطيين لرفع العلم الأميركي، الذي تم تحريره من الجمهوريين، بينما سيلجأ الجمهوريون إلى رفع أعلام الكونفدرالية، إلى جانب العلم الأميركي.
- الانقسام الأميركي ظهر أيضا فى تفسير أحداث اقتحام الكونغرس الأخيرة، فبالرغم من الأدلة الدامغة على مشاركة أنصار ترامب في الاقتحام، إلا أن هناك رواية أخرى تتردد في قاعدته الانتخابية، وهي أن ما حدث هو جزء من مؤامرة، وأن المقتحمين هم متسللون من أعداء ترامب من اليسار، وبالرغم من أنهم كانوا يرتدون قمصانًا أو قبعات أو يحملون أعلامًا تحمل اسم ترامب، إلا أنه يتم تبرير ذلك بسهولة شراء هذه الملابس والأدوات من أي مكان. كما يتهم البعض الشرطة بإزالة الحواجز عندما اقترب المتظاهرون من الكونغرس كي تشجع اقتحامهم للمبنى، ومن ثمَّ أوقعتهم في هذا الفخ.
لقد كانت أحداث اقتحام الكونغرس من قبل انصار الرئيس ترامب، بمثابة قمة جبل الجليد، التي تخفى تحتها درجة عميقة من ذلك الانقسام السياسي والثقافي والاجتماعي والعرقي داخل المجتمع الاميركي، والذي يمكن وصفه بأننا إزاء “أميركيتين” وليس أميركا واحدة، أو شعبين فى بلد واحد.
مستشار المركز العراقي للدراسات الستراتيجية