د. قيس العزاوي
بهدوء ونعومة وعلى مدى العقود القليلة الماضية تسللت الاستثمارات الصينية نحو القارات الخمس، لكي تستقر اخيراً في الغرب الاميركي والاوروبي، وتثير رضا الاقتصاديين وقلق السياسيين والستراتيجيين، فتوظيفات الوفرة المالية الصينية الكبيرة تركزت على المجالات الستراتيجية، واستخدم الحجم الهائل للاستثمارات الصينية في القطاعات الغربية كافة، حتى أنه أسال لعاب المؤسسات الاقتصادية وبعث مخاوف الستراتيجيين على حاضر اقتصاديات الدول الغربية ومستقبلها.
وصلت الديون الاميركية لصالح الصين الى 1.3 تريليون دولار، وتثار اليوم عشرات الاسئلة في الأوساط المالية والاقتصادية الدولية مثل: كيف يمكن لثاني أكبر اقتصاد في العالم (الصين) أن يكون مقرضا لأول اقتصاد في العالم(الولايات المتحدة)؟ ولكن هذه الحقيقة لن تبقى أزلية، فالبنك الدولي يرى أن الصين ستصبح الاقتصاد الأضخم في العالم ما بين سنتي 2020 و2030. ولماذا تقرض الصين الولايات المتحدة في ظل الحرب التجارية القائمة بينهما؟ والجواب لدى الأوساط المالية الدولية، التي تعتقد ان شراكة المصالح المتبادلة بين عملتي البلدين اقوى من الخصام السياسي . ويبقى السؤال المركزي مؤرقاً وهو: هل سيقدم الصينيون الذين اشتروا بأثمان بيع بضائعهم في الاسواق الاميركية سندات الخزينة الاميركية على استخدامها لأضعاف الاقتصاد
الأميركي؟.
اسئلة كثيرة توقفها عند حدها مشاعر الاطمئنان الغربية لحسن السلوك الصيني، فالصين لن تطالب الحكومة الأميركية سداد ما عليها من ديون، ولن تبيع هذه السندات لأن ذلك سيلحق أضراراً جسيمة ليس بالاقتصاد الأميركي فحسب، وانما ايضاً بالاقتصاد العالمي لكونه سيبث فوضى كبيرة في الأسواق الدولية مما سيلحق الضرر بالنظام الاقتصادي العالمي، الذي سمح للصين بهذا الامتداد في الدول
الغربية.
والحقيقة التي ربما تكون غائبة عن المراقبين هي ان القروض الصينية للولايات المتحدة، تعزز موقع الدولار في الاقتصاد الدولي على حساب عملة اليوان الصينية، ولكنها مطلب خفي صيني لاسباب تسويقية تتعلق باستمرار تدني أثمان البضائع الصينية. ولكن ماذا لو قررت الصين فك الارتباط بين عملتها والدولار، وجعل اليوان أكثر جاذبية لتجار الفوركس في الأسواق العالمية؟ هنا ينبغي أن نعترف بأن هذا الامر يشكل أحد مصادر المخاوف الاميركية، لذلك عدَّ جون راتكليف مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، أن الصين تمثل “أكبر تهديد للديمقراطية والحرية” منذ الحرب العالمية الثانية، لأنها عززت قوتها بسرقة أسرار أميركية، وبدأت تحل محل الشركات الأميركية في
الأسواق”.
ولم يكن الحال بأفضل في علاقات دول الاتحاد الاوروبي مع الصين، فالاتفاق المبرم ما بينهما المعقود في آخر أيام عام 2020 الذي سمي باتفاق الشراكة الاوروبية الصينية يشكل - كما يقول الكاتب الفرنسي عمانوئيل بيرتا - ضربة قاضية للولايات المتحدة، فقد جعل حجم التبادل التجاري بينهما يصل الى 560 مليار يورو، لكي تصبح الصين اكبر شريك تجاري للاتحاد الاوروبي وليس الولايات المتحدة التي بقي حجم التبادل التجاري بينها وبين الاتحاد الاوروبي بقيمة 501 مليار دولار. ألمانيا وحدها شكلت 42 بالمئة من صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الصين في عام
2019.
وتلك خطورة تجسد تصدع جبهة الغرب الامريكي عن الاوروبي من ناحية وتصدع الجبهة الاوروبية داخليا من خلال انحياز المانيا لمصالحها المتنامية مع الصين ومراعاتها المستمرة للمستهلك الصيني من ناحية ثانية، وهو ما يجعلنا نتأمل في قول الرئيس الفرنسي ايمانوئيل ماكرون إن الصين لديها “عبقرية دبلوماسية حقيقية” لتقسيم أوروبا
وإضعافها!.
ويستكمل الرئيس ماكرون المخاوف الاوروبية على الجبهة الامنية الغربية عندما يصر بتأييد الماني على استقلالية القرار الاوروبي عن الامريكي، ويطالب بل ويعمل ميدانيا على بناء الجيش الاوروبي الذي يوفر المظلة الأمنية، بدلاً من المظلة الاميركية، لأنه يعتقد جازما- وقد صرح بذلك للعلن مراراً- بأن الحلف الاطلسي “ميت دماغياً”.. وبذلك يبرر علاقاته “الامنية” المتميزة بالرئيس الروسي فلادمير بوتين ويدافع عنها وهو ما يثير الغضب الالماني والاميركي، تلك هي صورة مبسطة للمارد الصيني في ذهنية الاوساط الستراتيجية الغربية، التي تعترف ولو على مضض ببعض مخاوفها على حضرها
ومستقبلها .