علي محمود خضيّر.. ينثر الشعر في حقول الأمس

ثقافة 2021/01/16
...

سلام مكي
 
يقول فيرلين: نحن نقول عن مشهد طبيعي إنه شعري، ونقول ذلك أيضا عن بعض مواقف الحياة، وأحيانا نقول عن شخص ما إنه شعري.. ولعل «كتاب باذبين» أصدق مثال وتطبيق على هذه المقولة.. سليل الغيمة، والحالم الذي يستيقظ، والذي يعيش حياة بالنيابة، قرر أخيرا أن يفرغ ذاكرته ووجدانه، وماضيه الذي يسكنه في كتاب، بل أن نثره قبلا في حقوله الأولى والتي لم تهدأ من روعه، لذا، كان عليه أن يزرع ذلك الماضي/ الحاضر في حقل خاص، فكان «كتاب باذبين» الصادر مؤخرا عن دار الرافدين. 
 
هذا الكتاب الذي رمى فيه علي أكثر من عصفور. العصفور الأول، إنه تخلص من عبء قديم، يؤرق ذاكرته، ويقلقه، كمحاولة لحث علي على تفريغ تلك الحمولة الرمزية في وعاء، يمكن ذلك الماضي على أن يتوقف ويتحول إلى حاضر وحتى مستقبل. 
العصفور الثاني، إدانة الحاضر، عبر الحنين إلى ماض، رغم قساوته وضبابية الحياة آنذاك، يوم كانت السلطة، تتحكم في نوم الانسان ويقظته. في أكله وشربه. يوم كانت السلطة تتسلل إلى أحلام الانسان العراقي، لتخرجه من فرصته الوحيدة في الخلاص من الواقع. ولعل اختيار «باذبين» الاسم القديم، للمدينة التي تركت أثرا عميقا في روحه، ما هو إلا صورة من صور الحنين إلى ذلك الماضي الذي لن يعود. فـ «علي الغربي» المكان الذي قضى فيه علي عمرا، يراه «باذبين» بوصف التسمية تشير إلى زمن أجمل
 وأنقى. 
العصفور الثالث الذي رماه علي كان السلطة. سلطة علي نفسه، في تطويع الشكل، والعبث بالتصورات المسبقة، والأشكال السائدة. والكتابة ذات السطر الكامل الذي يشبه النثر، ليس نسقا غريبا، خصوصا وإن قصيدة النثر الفرنسية وكما عرّفها عبد القادر الجنابي: كتلة قوامها نثر متواصل في جمل تجانس أي نثر آخر. فإلى جانب كسر النمطية والتكرار الشكلي، سعى علي إلى استحضار كل الصور والاشتغالات والمجازات في كتابه هذا. كما يكتب القسم الآخر على شكل مقاطع على طريقة الشعر الحر. وإن لم يسع علي إلى منح كتابه، هوية معينة، رغم أنه ذكر في الغلاف أن «كتاب باذبين» هو رابع مجموعاته الشعرية. وعلي يحيل أبسط شيء إلى شعر. 
وشعره ليس حبيس الأشكال القديمة ولا التصورات المسبقة. فهو يخلق لنفسه تصوراته الخاصة وأشكاله المعبرة. هو يهدم صحيح، لكنه يبني في الوقت نفسه. يبني لنفسه أسلوبه الخاص، ولغته الخاصة. هو ينظر إلى الداء، فيحيله إلى شعر، يغمض عينيه عن الخراب، باحثا عن زهرة قد نبتت هنا أو هناك، أو حتى سقطت من يد امرأة أو رجل. ففي نص «كاهن الفراغ» كان الحاج جالسا وسط السوق، وحوله رائحة دم الدجاج المذبوح، وأقفاص الطماطم.. لكن الصوت السلسبيل، الجميل حدّ اللعنة، هو الذي أسر علي وأسر المارة.. فعلي، كان ينظر إلى أعماق الروح الانسانية التي أسرته هنا، في «علي الغربي». ورغم اللغة الفخمة التي كتب لها، لم يتخلّ عن الشعبي والمحكي، فكانت العتبة الأولى في الكتاب «كرويته» وهي مفردة شعبية، معروفة. تشير إلى الطابع الشعبي للمدينة والتي يذكّر علي بها نفسه بين مدة وأخرى داخل الكتاب. بل ويهبط علي من صهوة لغته إلى أعماق الأزقة وسراديب الحياة هناك، حين يسطر قصيدة: جابر يجابر.. وبصوت من؟ بصوت قحطان المطرب الذي يضفي مسحة حزن فريدة على كل قصيدة تقع بين شفتيه. ويبدو أن المدينة الغارقة في الحزن، قد بللت روح علي، وها هو يسعى اليوم إلى إراقة روحه في كتاب، علّ تلك الدموع تجف. 
على هذي الأريكة
سأقضي ساعة نهاري الأخيرة
عائدا لحجرة داخلية في علي الغربي
وعلي محمود خضيّر هنا، حوّل علي الغربي كله إلى بيته. فالحجرة جزء من البيت، ويبدو أن علي الغربي كله بيت علي. ويعترف علي بأنه يقتفي أثر السياب مع جيكور، لكن بلغته الخاصة والمختلفة. بلغة تسعى لنثر الشعر في كل مكان، بلغة تسعى لأخذ الماضي وإعادته بحلّة جديدة، مكللة بالشعر والنثر معا.. ويكرس علي، إدانته للواقع، عندما يعترف بأن كلماته لا قيمة لها أزاء فداحة الحاضر، وبؤسه..
لن تصلح كلماتي يوما كرسيا مكسورا، ولن تكتسح، وإن استطارت ظلال أب مكدود، ومهما هاجر كتابي في القصبات والمدن البعيدة وفك من مغاليق السابق والآتي فليس له حظ رجل يعالج قلب العالم من مخزن شحيح الضوء في مدينة مغمورة، ولم يقرأ كتابه أحد.
وهذه إدانة جديدة للواقع، إدانة تشير إلى اللا مبالاة والجهل، في تلقي الأشياء، رغم فرادتها وأهميتها. ربما أراد أن يقول إن كتابه هذا، يمثل لحظة امتنان ورد للجميل، للمكان الذي انطلق منه، وتشكلت فيه معالم روحه، وفيه تفتحت مغاليق قدراته على الوقوف بوجه الحياة.