وطن مجنون

ثقافة 2021/01/16
...

شكر حاجم الصالحي 
 
خمسة نصوص شعرية من مجموعة (وطن مجنون) أنتجها المبدع حسن رحيم الخرسان واختارها الشاعر والمترجم حسين نهابة وترجمها الى الإسبانية بعد أن أصدرها في كراس صغير وأنيق. وهذه النصوص منتقاة اذ ينتظمها هاجس الحروب المدمرة ونتائجها الكارثية، وهي بمجموعها ترسم الخراب وتدين فاعليه، وأزعم ان هذه النصوص تشكل نصاً واحداً ولكن بتنويعات على الموضوع الجامع/ الشامل، ومن هنا تأتي مهارة مبدعها في التعبير عن هواجس وآراء وإدانات الآخرين للحرب بمختلف صفحاتها، وعبر لغة سليمة وصور ذات قدرة عالية التوضيح والتوصيل، ومن هنا تتضح رؤية الخرسان، رغم بعده المكاني عن مسرح الأحداث إذ يقيم في السويد منذ عقود بعيدة ولكن ارتباطه المصيري بالوطن ومعايشة بعض حرائقه لم تجعله بعيداً روحياً عن قلبه النابض بالنشأة والذكريات، ولا شك أن تناول موضوعة الحرب من داخلها ليس كما التناول من خارجها، وهذا ما انعكس على صدق المشاعر ودقة الرؤية: (الطريق الوحيد لقافلتي/ هي أمي حين رحلت/ بقيت بلا وطن). 
معنى ذلك أن الأم هي الوطن وهي الملاذ الأخير للشاعر الذي يفصح عن عناءاته وأشواقه لتلك المرأة التي أنجبته وعلمته أبجدية الحياة.
في نصه (أخيراً منحني النقاد ــ وسام النسيان) يتألق الخرسان بقوله: (لأنهم لا يعرفون معنى الحرب أتهمونا بالجنون/ حاملين أسماءنا/ على قائمة الإرهاب).
 ولكن الخرسان يوغل في تبشيع صورة الحرب (أية حرب) عندما يرى (بغداده) بما آلت إليه من خراب وخوف :(كلما أتنفس بغداد/ أجد ثوباً ممزقاً/ واصواتاً تدور/ ثمة أيد تحرث الجميع/ وعيون تشخر من
 التيبس). 
ومن النصوص التي أدهشتني وجعلتني استرد ذكرياتي الشخصية في تلك الحروب نص (من قلب دجلة) الذي لخص فيه حجم الألم والمعاناة والصبر الذي أبتلي به ابناء الوطن الغارق في مستنقعات الموت والجريمة وغياب الأمان، فدجلة رمز عراقي خالد يرشح بالبقاء والتمسك بكل ما هو جميل رغم صنوف الأذى وبشاعة التحديات، وقد أجاد الشاعر بتقديم منظر مأساوي لعراق تقاسمته الحيتان وصيرته يباباً تحت مسميات خادعة وادعاءات باطلة، ولكن دجلة تظل حاملة بالخيرات والأمل رغم فداحة الخطوب الظالمة وأدواتها الزائفة :(لم يكن الشتاء مراً/ بل الغيمة/ كانت حبلى بالكذب/ والمطر/ دخل الى الوطن
بجوازات مزورة). وقديماً قيل إذا عُرف السبب بطل العجب وأي عجب هذا الذي جثم على الصدور بأكاذيبه وجوازاته المزورة، فكان هذا الذي كان كوارث متلاحقة وخسائر فادحة ووعود كاذبة، ويا ليت تلك الغيمة ما أمطرت أحقادها على ارض هذا العراق: (في صحراء قلوبنا/ آبار من النفط/ لهذا زرعت اميركا تمثال الحرية/ على رؤوس اصابعنا النائمة/ وحين خرجت من البيت/ انفجرت في وجهي مفخخة سقطتُ/ وأنا في القبرِ). ومن جميل صور نص الخرسان هذا قوله :(سرقت نصف عمري تلك الحرب/ والمنفى/ سرق النصف المتبقي). فيا له من مصير مؤلم بين حرب ومنفى وجوع وتشريد وحضور وغياب، ويبلغ الشاعر ذروة اليأس والخذلان مجسداً ذلك بهذا المقطع الذي يرشح ألماً ومرارة إذ يقول :(بغداد/ لا تراهني علينا/ نحن القردة الخائنون/ نعشق الذباب والقمل/ نتقافز وراء الموز/ لنا أنوفٌ تحب الشخير/ نرقص كي تضحك علينا السلاحف).. هل هذا معقول أيها الشاعر؟ وهل تناسيت كل ما لدى العراق من امكانات وتاريخ مجيد، وراهنه لا يعكس حقيقته فهو يستمد أصالته من عنفوان شعبه العظيم ولا يمكن أن نقيس واقعه الآن كمسلمات نهائية، الشعوب لن تهزم ما دامت الضمائر حية فكن متفائلاً أيها الخرسان بالمستقبل الذي يكنس كل الأدران والأوساخ وينهض معافى مسلحاً بالعزيمة والأمل. ومن صوره المعبرة :(رأسي الذي توّزع/ كان.. بقايا حرب تتناسخ).