الجواهري يختار أبياتا لتنقش على تمثال ينصب له

ثقافة 2021/01/16
...

د. محمد الطريحي
حين وصلت دمشق عام 1991، وبي لهفة عارمة للحظة لقاء الجواهري، ومنذ لقائي الأول تكررت الزيارات وأخذت الجلسات تمتد ساعات حتى أن زوجته رحمها الله استوقفتني مرّة وقالت: خفّف عليه فالطبيب أوصانا بأن لايتحدث كثيرا، ولكنني كنت منتشيا بانسجامه فأسأله مستفسرا عن بيت أوقصة قصيدة وتنسى نفسك في حضرة شاعر العرب الأكبر.
وذات يوم سألته: بعد عمرٍ طويل سيقيمون لك تمثالا كمثل الرصافي والحبوبي وشوقي وغيرهم، فما الذي تختاره منْ أبيات لتنقش على التمثال؟ أخذ نفساً عميقا من سيجارته التي تكاد لاتفارقه ودارت عيناه تلاحق دخانها وهو في التسعين منْ عمره وحرَّك أحجار مسبحته يمينا وشمالا وكأنها بيت من الشعر بشطريه ثم تنهّد وتمتم: هذا سؤال صعب، ولم يسألني به أحد من قبل وغير وارد على ذهني فكيف تريدني أختار بيتين أوثلاثة من بين 30 ألف بيت؟ قلت: صحيح أبو فرات. 
فانتقلت إلى موضوع مطابقة بعض قصائده التي لم تنشر وبعض المقطوعات والأبيات النادرة وكنت ضممتها بمجموعة لهذا الوقت ولاأنسى- فضل د.إياد القاموسي ووالده الشاعر الكبير صادق القاموسي وهو من أخلاء الجواهري القريبين منه برفد هذه المجموعة- وفي أثناء النقاش قاطعني الجواهري، قائلا: لحظة تذكرت شيئا بخصوص التمثال، وهدركعادته منشدا:
 أسلُّ النَّصْلَ منْ جرحٍ نزيفٍ
       فألفي تحتَ حُفرته ِ نِصَالا
ثم أعاد البيت وقبل أن يكمله قال: لكن هذا البيت لايشبه بيت المتنبي، وردد شطره الثاني:
تكسَّرت النِّصالُ على النِّصَال ِ
فقلت: أبدا لايشبهه فالمتنبي تتكسر النصال متساقطة وصارت متشابكة لاتؤثر فيها النصال الأخرى وأنت النصال متجمعة في حفرالروح فتستل النصل مع الوجع والفجيعة، فارتسمت ابتسامة الرضا على محياه، وقال: لاأدري لماذا يشبِّهني النّقاد بالمتنبي العظيم وأنا أجد نفسي قريبا من البحتري؟ فقلت: ربَّما لأنَّك قلت فيه بقصيدتك المدويّة فتى الفتيان:
فتى دوَّى مع الفلك ِالمدوِّي   فقال كلاهُما: إنَّا كلانا
فردد البيت باعتزاز وكبرياء يليق به وهمهم: تمام مضبوط، فقلت: حين التقيت الشاعر السوداني محمد الفيتوري في طرابلس بليبيا أخبرني أنه ذكرهذا البيت ثم قال لك أبوفرات لم تبق لنا شيئا فأنت والمتنبي فقط؟ وكان جوابك له: طيب اكتبوا مثل هذا الشعرحتى ترتقون لمنزلته، فانتشى الجواهري وأضاف: صحيح، لقد فاجأني الفيتوري بعدأن انتهيت من إلقاء القصيدة في الذكرى الألفية لميلاد المتنبي ودار بيننا حديث طويل. أبو فرات بالعودة إلى موضوعنا عن الأبيات التي تكتب على تمثال لك فقد ذكرت بيت النصال، فاعتدل الجواهري في جلسته ثم قال نعم هذان البيتان:
 
ومنْ حسناتِ عمركَ أنْ تهزّا
    بما يغري سِواكَ إذا استَطالا
تعدِّدُ ساعةً فيه وأخرى
فلا سؤْلا تعدّ ولاسُؤالا
ولماذا البيتان دون غيرهما؟ فيجيب الجواهري: لأنني كما ذكرت في مقالتي العجيبة على قارعة الطريق التي أعتز بها فإن العمر الحقيقي للإنسان كما أراه هو بعدد ساعات سعادته في الدنيا أما باقي العمر فهو في الشقاء وتذكره يعيد الألم للروح؛ ولذلك أنا لم أذق طعم السعادة والراحة إلا قليلا؛ ولذلك عدت بعد عشر سنين وكتبت مقالة أخرى لصديقي عابر سبيل وكنت أخاطب نفسي بها فأنا عابر بهذه الدنيا التي عشت فيها مرارات وتجرعت الأسى فيها كثيرا، والآن يمكن أكون بوضع مريح وحياة رخية –ويخفض صوته وهو يذكر الرئيس الراحل حافظ الأسد بخير- فهاجس الخوف متمكن منه كحال العراقيين في حينها. وبمناسبة الحديث عن تمثال الجواهري فهنا في واشنطن ترى تماثيل تنتشر لرؤساء وشخصيات ومفكرين في الساحات الرئيسة أو أمام السفارات وهناك تمثالان لجبران خليل جبران؛الأول في إحدى الساحات العامة والثاني عند السفارة اللبنانية، ففكرت بإقامة تمثال للجواهري في واشنطن فراجعت البلدية باسم المركز الثقافي العراقي واستحصلت الموافقة على إقامة تمثال نصفي للجواهري، واتصلت بفرح غامر بالنحات العالمي سهيل الهنداوي بكندا ورحب كثيرا، وصادف وجود الموسيقار الكبير الصديق نصير شمة وعرضت عليه فكرة إقامة تمثال للجواهري هنا بواشنطن فشد على يدي. وهنا بحسب القانون بإقامة النصب والتماثيل يشترط اختيار نص أو عبارة للشخصية نفسها ولكن يجب أن تكون إنسانية كونية وكنت اخترت أبياتا من قصيدته حببت الناس كتبها على شعر التفعيلة:
حببتُ النَّاس والأجناس.. 
والدُّنيا التي يسمو على لذّاتها..
 الحبُ للنَّاس.
ومباشرة أخذ نصير يبحث في حاسوبه عن القصيدة ووجدها وقال سوف أبدا بتلحينها ومتى ينجز التمثال سآتي على حسابي الخاص لأعزفها هنا بواشنطن فالجواهري عظيم ويستحق. فشكرته على روحه الإبداعية وأخلاقه العالية. وحين كتبت للوزارة ببغداد فوجئت بإجابتهم بأنه لاتوجد تخصيصات مالية لإقامة التمثال النصفي وهي لاتحتاج إلى مصاريف كثيرة فالمكان مجاني والنحات الهنداوي متبرع بالعمل إلا بعض المواد للتمثال ومع ذلك جاء الرفض مرة ثانية من الوزارة!