بين المقهى والأدباء علاقة متينة، متيقظة، ترتبط بيوميات متجددة، حتى صارت علامة فارقة لبعض شخصيات المدينة، ومكان تواجدهم المعتاد، وما يرتشفون ويحتسون فيها من اشياء ساخنة، على الرغم من تكرار بعض الوجوه المألوفة.
يقع مقهى الأدباء في البصرة، بوصفه حاضنة مهمة للقاء المثقفين ومبدعيها وقت راحتهم، في ممر ضيق وسط في منطقة البجاري، ترتاده الكثير من الأسماء اللامعة والبارزة من شعراء وقاصين وفنانين، فهو ملتقى الوجوه المتفاعلة بالقراءات والحوارات الشيقة وتبادل الآراء والأفكار والفضاءات الحوارية، تعقد جلساتهم في أوقات مختلفة قد تكون في الضحى أو في المساء الذي يكون أكثر
حضورا.
صار تواجدهم معروفا في اوقات متفاوتة، هذا المكان هو المناخ الأكثر حميمية في التواجد وطرح بعض المشروعات الثقافية والتداول فيها بين الأدباء حصرا، يلجأ أحدهم وهو ينتظر وصول القاص محمود عبد الوهاب الذي اعتدنا على مكانه الأليف، بقبعته و(لفافه) وهو يمنح المقهى ألفة وحكايات بروحه المازحة والساخرة، وحرصه الكبير على تداول ونقاش الأمور المعرفية، وتبادل الرؤى والنصح لمن يطرح عليه فكرة، أو قراءة منجز لإبداء الرأي والمشورة فيه، يتبادل معه الشاعر كاظم الحجاج الحكايات والذكريات بحضور متذبذب ومتقطع من القاص محمد خضير الذي يحرص على تواجده في أوقات محددة، ننصت الى أحاديثهم، أفكارهم، وطريقة تبادل الكلمات.. يتناقشون في كتاب جديد، يتبادلون الذكريات والتذكر وهم يرتشفون الشاي الساخن بمزحة من القاص محمود عبد الوهاب.
تتكرر الصورة والحضور يزداد بهاءً، بحضور الكاتب جاسم العايف الذي يعد ذاكرة مدينة لا تخطأ التوقيت والمكان، ذاكرة عامرة نابضة بالأحداث، تجدها طرية وهو يتحدث عن الفيصلية ومقهى الدكة وعوالم كثيرة.. نعم تعلمنا منهم منعطفات المدينة وشخوصها ومعالمها ورسوخ معارفها، أما الشاعر حسين عبد اللطيف كان قليل التواجد وهو يتأبط كتبه وبعض أوراق مشاريع كتابه عن ذاكرة المدينة المتوقدة، وأبرز كتابها وعنوانات مجلاتها وأسماء صحفها، لقد أخذ المشروع منه وقتاً طويلا، يتحدث حين يُطُلب منه رأياً أو فكرة، تجده يسهب في تناولها بخبرة ماهرة، في المساء ننتظر قدوم الكاتب خالد السلطان الموسوعي بطروحاته وأفكاره، هادئ جدا يتقبل منك الرأي، يناقشه بروية وبصيرة ثاقبة، بحضوره يتجمع الأصدقاء الكاتب عامر الربيعي، السيناريست عبد الخالق كريم، نمارس طقس المشي من المقهى الى شارع الجزائر لنفترق ليلا على أمل اللقاء في مساء اليوم الآخر، وأتذكر الكاتب قاسم علوان الذي كنا نتجاذب أطراف الحديث، عن فكرة تصويره وإخراجه لقصيدتي (الداكير) بعد استطلعنا المكان وحاورنا بعض الساكنين هناك ورسم خارطة عمل لتنفيذ هذا المشروع الجميل وهو يعد ذاكرة مدينة وماء، لكنه توقف مع توقف حياته في محطتها الأخيرة.
الأسماء كثيرة والأصدقاء أكثر، شعراء، قاصون، أصدقاء الأدباء الذين يحضرون بدأب ومواظبة كي يناقشوا ما كتبوا في زاوية من
المقهى.
للمقهى ذاكرة حية، تبرز من خلالها الحكايا والذكريات، ما يحزننا اليوم أننا نجد صور بعض من تحدثنا عنهم معلقة على جدار المقهى، ينظرون الينا بعيون حزينة، تبادلُنا الكلمات رغم سكوتها، في كل زاوية لنا حكاية، على أريكتها وجدرانها ووجوه النادلين والأصدقاء تنشطر الحكايات وهي تستذكر مدينة صغيرة وسط ضجيج المدينة بزقاق ضيق وصخب محال مجاورة، للمقاهي الأدبية طقوسها التي نمارسها لحظة ولوجنا بواباتها، هذه بعض لقطات من يوميات المقهى في وقت مضى، الأسماء التي ارتادت المقهى لا تعد ولا تحصى، لا يمكن أن تختصرها مقالة أو حتى كتاب، سعينا أن ننظر من زوايا متعددة بضوء كاشف لبعض حيواتنا في وقت نحتاجها كي تخبرنا ببعض قصص جذبتنا بقوة.