ميشيل غولدبرغ
ترجمة: أنيس الصفار
في الأيام التي أعقبت دفع ترامب جموع غوغائه لاجتياح مبنى الكابيتول في محاولة يائسة لإيقاف المصادقة على هزيمته عبّر عديد من المحافظين عن غضبهم بشأن الضحايا الحقيقيين لهذه العملية الانقلابية الفاشلة.
بعد ذلك حظرت تويتر حساب ترامب وحذفت جميع الحسابات المروجة لنظرية المؤامرة التي تدعيها حركة "كيو-أنون"، فكتبت "سارا هوكابي ساندرز" على حسابها في تويتر: "لقد خسرت اكثر من 50 ألف متابع لي خلال هذا الاسبوع.
" كانت ساندرز، وهي السكرتيرة الاعلامية السابقة لترامب، تعبر عن تذمرها من الرقابة التي يفرضها من وصفتهم بـ"اليسار المتطرف" فتابعت تقول: "نحن لسنا في الصين .. إنها الولايات المتحدة الأميركية وهو بلد حر".
لكن حجب موقعي تويتر وفيسبوك حسابات ترامب هو في الواقع النقيض تماماً لما كان سيحدث في الصين، إذ لا يمكن تصور ان يجرؤ عملاق التواصل الاجتماعي الصيني"ويبو" على اغلاق حساب الرئيس "شيجنبنغ".
حجب ترامب عن مواقع التواصل يمثل بشكل من الاشكال حلماً تحررياً ليبريتارياً عن فضاء عام يملكه بالكامل القطاع الخاص، فضاء تقرر الشركات فيه حدود الكلام التي يسمح بها وليس الحكومات.
أما أنا، ولكوني شخصاً غير ليبريتاري، فأجد نفسي متفقاً مع الكيفية التي استخدم بها عمالقة التكنولوجيا سطوتهم في هذه الحالة بالذات، ولكني في الوقت نفسه أشعر بالقلق من المديات المخيفة لهذه السطوة. لقد استحق ترامب أن ينبذ من منصات التواصل، كما استحق موقع "بارلر"، وهي شبكة للتواصل يفضلها اتباع ترامب الذين احتشدوا متوعدين كل من يعادي الرئيس، أن يطرح خارج شبكة خدمات أمازون، بيد ان الخطير في الأمر هو ان تتحكم حفنة من عمالقة التكنولوجيا الشبان قليلي الخبرة بتحديد من الذي يعطى مكبرة صوت ومن الذي لا يعطى ذلك.
حين حجبت شركات التواصل الكبرى حسابات ترامب كان ما فعلته ببساطة هو انها بدأت تعامله كأي شخص عادي. هناك كثيرون، من بينهم مؤيدون بارزون لترامب، شطبوا من فيسبوك او تويتر او من كليهما بسبب تحريضهم على العنف وتهديدهم الصحفيين ونشرهم خطاب الكراهية، في حين بقي ترامب حتى الاسبوع الماضي متمتعاً بجميع الامتيازات الخاصة رغم ارتكابه تلك الأمور جميعاً، لمجرد كونه الرئيس.
نزع تلك الامتيازات لا يتعارض مع التعديل الأول للدستور، لأن الدستور لا يفرض للأميركيين حقاً على الشركات الخاصة بأن تنشر لهم خطاباتهم، على العكس من ذلك يعطي التعديل الأول الأشخاص والشركات على حد سواء حرية الامتناع عن المشاركة في خطاب لا يقبلونه.
هنالك جدل يدور حو المدى الذي يمكن ان تذهب اليه هذه الحرية، فالليبراليون عموماً يعتقدون أن حرية المشاركة لا ينبغي أن تدوس على قانون الحقوق المدنية، ولكن من الواضح ان الدستور لا يرغم احداً، اشخاصاً كانوا ام مؤسسات تجارية، على تضخيم صوت الدعاية السياسية التحريضية.
مع هذا تبقى قدرة شركات التكنولوجيا على اسكات أعلى الناس صوتاً في العالم شيئاً مدهشاً. لا شك ان ترامب سيبقى قادراً على عقد مؤتمر صحفي في اي وقت يشاء، أو الاتصال بوكالة فوكس للانباء، ولكن حرمانه من الدخول الى وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة لأي انسان في الأرض قد صغّره وهوّن شأنه على نحو لم تنجح فيه الى الآن محاولات عزله وهزيمته في الانتخابات.
حظر الدخول الى مواقع التواصل شيء كبير، والسبب هو أنه رمية في قلب الهدف، وبالوسع رؤية ذلك في حالة عتاة من انواع شتى مثل "داعش" و"ميلو يانوبولس" و"أليكس جونز".
يقول "بيتر سنغر" المشارك في تأليف كتاب: "مثلها مثل الحرب: توظيف وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح": "السبب هو أن قدرة هؤلاء على توجيه الحوار والاتصال بجمهور واسع من المستمعين لأغراض تجنيدهم لغاية معينة او جني المال، تصاب بضرر لا سبيل لإصلاحه".
تحجيم حضور ترامب السام شيء عظيم وبه تكون الشركات الخاصة، قد برهنت على أنها أسرع من الحكومة الأميركية في التصرف وفرض التبعات على شخص في طريقه للتحول الى طاغية وكان حتى اللحظة الأخيرة يتمتع بأعلى مستويات الحصانة المدمرة.
بيد أن هذه الشركات قد اثبتت من خلال ذلك ايضاً أنها تمتلك نفوذاً لا تمتلكه دول كثيرة، وهو نفوذ تستطيع استخدامه على هواها من دون التعرض لأية مساءلة.
ليس من المدهش إذن أن يشعر أناس من أهل الجد، مثل المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" والمنشق الروسي "أليكسي نافالني"، بالانزعاج من الحظر الذي تعرض له ترامب. كتب نافالني على حسابه في موقع تويتر: "هذه سابقة سيستغلها اعداء حرية التعبير في شتى انحاء العالم".
بيد أن الحل لا يكون بإعادة حساب ترامب العزيز اليه. يشير نافالني ان حظر حساب ترامب، قد تم بقرار اعتباطي كما يبدو لأن هناك لاعبين سيئين آخرين، مثل الحكام المستبدين ومنكري وباء "كوفيد" وجماعات صناعة الرأي العام، لا يزالون قادرين على الدخول الى هذه الخدمة.
يدعو نافالني منصات التواصل الى ابتكار عملية أكثر شفافية وتعيين لجان يمكن الاعتراض على قراراتها، وتلك ليست سوى البداية.
على المدى البعيد سيتوجب تفكيك احتكار التكنولوجيا، كما تقترح "إليزابيث وارن". وصف سنغر أمراء التكنولوجيا الذين اتخذوا اخيراً اجراءاً ضد ترامب، بعد ان مكنوه على مدى سنوات، بأنهم "حكام ممالك تجردوا من مسؤولياتهم منذ زمن طويل".
في هذه المرة، مع ترامب بالذات، اصدروا حكمهم برجاحة عقل وحصافة، ولكنهم يجب ألا يبقوا متحكمين كما هم اليوم.
عن صحيفة "نيويورك تايمز"