{الى صديقي علي}
مسك حزام حقيبتي ليرفعها نحو كتفه، لقد كان يحملها بجهد مبالغ فيه، ولكنني ما ان رأيت وجهه، عرفت انه قد حمل همومنا آنذاك، لقد أجلنا فراقنا لدقائق، ولأنه كان آخر المستعدين للوداع، سرنا ونحن نخطو على الذكريات ببطء العاجزين، توقف عند ناصية الطريق مكسوراً، لم تكن رؤيتي له بهذه السهولة، توقفت الوعود عندها، وانتهى جميع ما اتفقنا عليه سويةً في صغرنا، تحول بجسده المهزوم من الرصيف الى الشارع، وبلا وعي اتكأت يداه على الاخرى، ارتشف ما تبقى على شفاهه من رمقه الاخير، لم ينظر الى اي شيء غير ذلك الخط في تلك الدقائق المعدودة، الى مسيري الاخير، نظراته الساكنة وقد امتلأت بنظرة الأم عند حرمانها من أطفالها، خيل لي بأنه قد تحول كأحد العجائز، بعد ان انهكه الطريق فتوقف كأنه يريد السقوط، لم يقل لي لسانه شيئا الا انه قال كل شيء، بوقوفه هناك، كأنه قد اجتمع بين شفتيه صراخ الفتيات في باحة المدرسة، وانين امهات الشهداء، مد كفه وقد انبثق منها توسله بأن تبقى ولا تغادرني، ركبتُ عجلة الفراق كأنني ذلك الغول الذي خُلق بلا مشاعر، وقد حال بيني وبين الاشباع من وجودهِ تردد عديمو التصديق، وكارهو المؤمنين باللحظات الاخيرة، الملتزمون بسلسة الاقدار، وانا ارى بأن ذلك الحبل الذي قد رُبطنا به سويةً، صار يتمدد لحظة تلو الاخرى، خفت بان هذا الحبل سينقطع بعد ان حان الرحيل، وبعد ان وجدت سبيلي لرؤيته للمرة الاخيرة، التجأت لانعكاس مرآة العجلة، فوجدته قد التصق فيها كله، هذا الكائن الاول عند بوابة الروح، يبتعد بلا هوادة، ورغم سني الموت الاخيرة، لم يزل صديقي قابعاً هناك، يجلس بعمق في ذلك الثقب الذي حفُره الفراق داخل
قلبي.