جمال العتابي يكشف جماليات سحر المكان

ثقافة 2021/01/19
...

يوسف محسن 
 
يبين مدخل كتاب (داخل المكان المدن روح ومعنى) لجمال العتابي الصادر حديثا توثيق المدن كروح ومعنى، كجنس لم يأخذ حيزه الكامل في الثقافة العراقية، إذ يرى ان المدن تواريخ وأرواحها تكمن في البشر الفاعلين الذين يعطون المكان هويته، هكذا يتجلى الحنين بصيغ شتى الى المدن والقرى التي عاشها الكاتب وهو حنين يعود إلى اربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين، ليدون بعض الذكريات التي تمزج بين الجانبين الواقعي المعاش والمتحول في الذاكرة الى حكايات، وهنا تتداخل الأساطير بالوقائع، واقع هذه المدن التي تمزج بين الحياة المأساوية ومسارات البحث عن الحرية الاجتماعية، انها حياة مشبعة بالغرابة والضياع والتشتت والسخرية المرة، ولكن الذاكرة البشرية تعيد بناءها في النصوص والأغاني والصور والذكريات والمقاهي (مقهى محمد المدهوش في الغازية) وحكايات الناس (مدينة الحرية عمارة انسانية) ثماني حلقات و(متوسطة الفجر في الكاظمية) و(شارع المتنبي المعنى وجدل التاريخ) وغيرها. ويجري كل هذا عبر عملية تحويل جمالي كمقدمات للحدث التاريخي ومحدداته اليومية 
المعاشة.
 
مكان وحكايات وأفكار
في الكتاب يشكل المكان العمود الأساس في وجودنا البشري الذي نتحرك داخله، يستنتج ليسكور (الكاتب لا يبتدع أسلوب حياته، بل يعيش بالأسلوب الذي يبدِع به إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لامباليا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من 
تحيز. 
إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية، إن المكان لا يمكن دراسته إلا في سياق الموضوعات الملتهبة انفعاليا والصور الكابوسية. حين نتذكر البيوت والحجرات فإننا نتعلم أن نسكن داخل أنفسنا). وخاصة المكان المسكون بالصداقات القديمة
والذكريات. 
ينتقي العتابي المكان بدقة كذاكرة مما يسهم في إنتاج نص مغاير بعناصر متماسكة مرتبطة متفاعلة مع المكان، كما يرى لوتمان المكان (يخضع للعلاقات الإنسانية، ويلجأ إلى اللغة لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومات الذهنية) في مادة (الغازية تتكلم روسي) يقدم صورة ساخرة لقرية  في الناصرية، تقع على ضفة الغراف اليمنى من ابنائها عزيز السيد جاسم وطالب القره غولي والعالم النووي رحيم الكتل الذي صفاه صدام، اصبح اسمها النصر بعد 1958 تقع بين الشطرة والرفاعي، لا كهرباء ولا ماء ولا شوارع مبلطة اهلها يشربون من النهر ويعلقون الفوانيس على الحيطان، فيها سيارة واحدة من الخشب وفي العام 1957 دخلت اول سيارة صالون فيها، كل اولاد المدينة يركض وراءها وكما يقول جمال العتابي وانا منهم، فيها مدرسة ابتدائية واحدة مختلطة، العبور للضفة الأخرى بالبلم او (الطبگة)، بالخمسينات كانوا (يجيبون شاشة سينمائية ينصبوها بالشارع ويوزعون مجلة العالم) هذه القرية ونتيجة توقيع العراق اتفاقية التعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي في اذار 1959، قامت فرق من المهندسين الروس بجولة في مدن وقرى العراق وتقتضي المرور بالشطرة والغازية، يأتي نداء من منظمة الحزب الى مسؤول منظمة الغازية بالتهيئة لاستقبال الخبراء الروس  وكان هذا عبر التليفون الوحيد في الناحية، إذ كان المطلوب ان يستقبل  الوفد باللغة الروسية ويهيئ جماهير الحزب في الناحية حيث جاءت كلمات الحزب من بغداد مندغمة وملتبسة لم يستطع مسؤول الحزب في الناحية ان يفهمها، من الصدفة ان يكون هذا الرفيق المسؤول هو عزيز السيد جاسم، انها سخرية مرة من
تاريخنا.
 
انتقالات من الواقعي 
الى الخيالي
في الكتاب تجري عملية انتقال بالمكان الواقعي الذي له علاقة بزمان تاريخي واشخاص مترسبين في الذاكرة الى عالم مخيالي،  فضلا عن مرجعية  الكاتب الفكرية الذي يحاكي الواقع بطريقة غير مباشرة ويعيد تشكيله وتحويله إلى أشكال مختلفة حسب احتياجاته الحياتية وعلى وفق التشكيل الثقافي فالمكان هنا مكان متخيل انتاج واقع تاريخي اي لا نقل العالم الواقعي أو نسخه وإنما تعني إعادة تشكيل المكان واكتشاف العلاقات الكامنة فيه والجمع بين العناصر المتضادة أو المتباعدة، في مادة (مدينة الحرية عمارة انسانية)، إذ يخصص لها جمال العتابي ثماني حلقات والتي يعدها المدينة التي عاش فيها شبابه لكونها الوطن الصغير وعالم الصداقات والتكوين الاول فهي تجاور احدى المدن المقدسة الكاظمية، إذ يرسم الكاتب جغرافيا المدينة وشوارعها ومداخلها وتفاصيل المحلات والشخصيات البارزة التي ظهرت في مقاهيها قبل ان تتغير مصائرها التاريخية، هناك الشاعر حميد الخاقاني وعبد المنعم الاعسم ورياض رمزي، التي تشكل عصب الحياة الثقافية والسياسية 
آنذاك.