في يوم الجمعة الماضي أعلنت روسيا عزمها على الانسحاب من اتفاقية عمرها عقود من الزمن، تسمح للدول المشاركة بموجبها أن تقوم بالطيران الاستطلاعي فوق أراضي بعضها البعض. هذه الخطوة من شأنها تصعيد حالة التنافس العسكري المتصاعد بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وأوروبا من جهة اخرى قبل اسابيع لا أكثر من جلوس إدارة بايدن المقبلة لمناقشة تمديد المعاهدة المركزية للحد من الاسلحة النووية.
قرار الرئيس «فلاديمير بوتين» بالانسحاب من اتفاقية «الأجواء المفتوحة» يحاكي ما اقدم عليه الرئيس ترامب في شهر أيار الماضي. هذه الاتفاقية، التي يعود عهدها الى العام 1992، محدودة الفائدة بالنسبة للولايات المتحدة التي تمتلك شبكة متكاملة من أقمار التجسس الاصطناعية، ولكنها حساسة ومهمة في نظر الحلفاء الأوروبيين باعتبارها وسيلة تتيح لهم متابعة تحركات القوات الروسية على حدودهم المشتركة.
حين أعلن الرئيس ترامب انسحاب أميركا، الذي اكتمل في وقت لاحق من العام الماضي، كان يتوقع أن يأتي بوتين اليه ساعياً لإبرام صفقة، ولكنه لم يفعل، والتحرك الروسي الأخير يشي بأن تلك الدولة قد عزمت على ألا تسهل على ادارة الرئيس المنتخب «جوزيف بايدن» مهمة التراجع عن رفض ترامب لسلسلة من اتفاقيات الحد من التسلح والمراقبة
العسكرية.
هذا الاعلان من الجانب الروسي، إذا ما تلاه إشعار رسمي لباقي الاطراف المشاركة في الاتفاقية، سوف يبدأ بمهلة زمنية أمدها ستة أشهر تسبق الانسحاب النهائي. يقتضي الاشعار ايضاً عقد اجتماع في ظرف فترة لا تتعدى 60 يوماً لجميع الأطراف الموقعة، وعلى رأسهم الدول الأوروبية الأكثر تأثراً واهتماماً بنشاطات روسيا خلال السنوات التي اعقبت عملياتها في
أوكرانيا.قال وزير خارجية روسيا في تصريح له ان حلفاء أميركا لا يبدون راغبين في الابقاء على الاتفاقية وإلا لاستجابوا لمطالبات روسيا في الاشهر الاخيرة بالامتناع عن إمداد واشنطن بأية معلومات استخبارية يحصلون عليها بفضل الاتفاقية طالما أن الولايات المتحدة قد خرجت
منها.
قال وزير الخارجية الروسي: «لقد عرض الجانب الروسي مقترحات محددة للمحافظة على الاتفاقية وفق شروط جديدة تنسجم مع أحكامها التأسيسية، ولكننا نشعر بخيبة الأمل إذ نرى أنها لم تقابل بالتأييد من جانب حلفاء الولايات المتحدة».
يمكن اعتبار هذا الإعلان تحركاً ابتدائياً في مجابهة مقبلة شديدة الوطأة بين روسيا وإدارة بايدن. ففي 5 شباط المقبل سينتهي العمل باتفاقية «ستارت» الجديدة للحد من التسلح النووي، ما لم توافق الحكومتان على تمديدها لخمس سنوات أخرى. هذه الاتفاقية تمثل الحائل الحقيقي الأخير الباقي دون انطلاق التنافس النووي بين الدولتين لأنها تلزم كل جانب بنشر ما لا يتعدى 1550 سلاحاً
نووياً.
لقد عبر بوتين وبايدن كلاهما عن رغبتهما من حيث المبدأ في إحياء شرط تتضمنه المعاهدة يسمح بالتمديد لفترة تمتد الى خمس سنوات. هذا الشرط وارد في الاتفاقية الأصلية التي جرى بحثها مع ادارة أوباما، لذلك لن يتطلب الأمر تصويتاً جديداً في مجلس
الشيوخ.
من غير الواضح بعد أن كانت روسيا تعتزم طرح مطالب جديدة، أو إن كانت لدى أي من الطرفين رغبة في تمديد الاتفاقية خمس سنوات كاملة
بالفعل. من جهة اخرى توعد بايدن بأن يجعل روسيا تدفع ثمن اختراقها الالكتروني الواسع لوكالات الحكومة الأميركية ومؤسساتها الذي كشف عنه النقاب في الشهر الماضي. من شبه المؤكد أن هذا القول ينطوي على تهديد من جانب بايدن بإيقاع عقوبات جديدة على روسيا او تنفيذ عملية سبرانية مقابلة ضدها اثناء سير مفاوضات
التمديد. العامل الآخر الذي قد يزيد الأمور تعقيداً هو ان أكثر الاعضاء تأثيراً في كابينة بايدن قد لا يحصلون على تصديق مجلس الشيوخ في الوقت المناسب قبل موعد المفاوضات. لذلك من المحتمل جداً أن تقع مهمة التعامل مع روسيا على عاتق مستشار الأمن القومي المقبل «جيك سوليفان» لأنه لا يحتاج الى تصديق
المجلس.
جرت مفاوضات اتفاقية «الأجواء المفتوحة»، التي شارك في التوقيع عليها نحو 36 طرفاً، في زمن الرئيس «جورج بوش» الأب في العام 1992 وذلك في اعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. تهدف الاتفاقية الى منع تصاعد التوترات العسكرية وتحولها الى حرب من خلال سماحها لخصماء حقبة الحرب الباردة بالطيران فوق اراضي بعضهم مستخدمين طائرات مزودة بوسائل استشعار
معقدة.
معظم المعلومات الاستخبارية الحديثة في الجانب العسكري اليوم يتم جمعها عبر الأقمار الاصطناعية، بيد أن بعض المعلومات لا يمكن التقاطها إلا بواسطة الطائرات المزودة بمستشعرات. لعل الأهم من ذلك كله هو ان الاتفاقية، التي تجيز لطائرات عسكرية أميركية معينة بالطيران في عمق المجال الجوي الروسي وبالعكس، كانت رمزاً للنيّة الجازمة على تجنب الحرب.
قبل الانسحاب الأميركي في العام الماضي بوقت طويل كان المسؤولون الأميركيون يتذمرون من انتهاك موسكو اتفاقية «الأجواء المفتوحة» من خلال منعها الطيران فوق كالينينغراد، وهي منطقة في روسيا يعتقد انها تنشر اسلحة نووية قادرة على الوصول الى أوروبا، اضافة الى حظر الطيران فوق أية تمارين عسكرية كبرى تجريها روسيا. ولكن الروس نفوا وقوع أي خرق من جانبهم للاتفاقية وزعموا ان الولايات المتحدة هي التي
خرقتها.
في يوم الجمعة الماضي أعلن وزير الخارجية الروسي ان بلده باشر الانسحاب من الاتفاقية، ولكنه لم يبلغ الاطراف الأخرى الموقعة بصورة رسمية. لقد كان الانسحاب الروسي متوقعاً طيلة الاشهر الماضية، ولو أن تقارير الاخبار الروسية بقيت تصر، والى الاسبوع الحالي، على أن الكرملين يدرس هو الآخر اتخاذ خطوة أكثر نعومة، كالاكتفاء بتعليق مشاركة روسيا في الاتفاقية بدلاً من الانسحاب كلياً منها.
أنتون ترويانوفسكي وديفد سانجر/عن صحيفة «نيويورك
تايمز»