هاجس آخرة الليل

ثقافة 2021/01/20
...

  نبيل جميل

في ليلة ندر ظهور القمر فيها، رغم السماء الصافية ولمعان النجوم التي أخذ يركز ناظريه إليها، حتى خيّل له أن إحدى النجوم القريبة، لامست قمّة مخروط قبة الضريح الذي عُرفت المقبرة باسمه.

لا رياح ولا أزيز بعوض، وحسب ذاكرته أنها تحدث لأول مرة، حكّ رأسه وحمل ابريق ماء الوضوء، ثم وبنظرة سريعة للسماء تمتم (الحمد لله على رزقه)، توقف لحظة ينصت، لجلبة حركة في الظلام، لم يتبين ما هي، أكمل وضوءه ودخل الغرفة، وبعد أن أتّم صلاته، جلس على حافة السرير يقرأ بهمس ما حفظ من قصار سور القرآن. وحتى عودة رفيقه انشغل بتقطيع ثمرة بطيخ، وإعداد مائدة العشاء، في تلك الأثناء تراءت له ظلال أشخاص، كان باب الغرفة مفتوحاً وكذلك نافذتها الوحيدة. في ذهنه تخلّفت صورة السماء الخالية من القمر. واصل رصف قطع البطيخ في إناء زجاجي، ثم بدأ بتحضير المقبّلات. الجلبة ثانية تخترق الصمت، ولم يهتم. خطا نحو مصباح الشحن وتأكد من ايصاله بنقطة الكهرباء.
 منذ سنوات لايتذكر عددها، وجد نفسه خارج بيت العائلة! قبلها كانت له زوجة وأولاد ثلاثة، مازال يتذكر ابتساماتهم (في الحقيقة هي من طردتني، وكان أخوتها الغلاظ معها يحملون العصي)، أخبر المشرف على المقبرة يوم جاء للبحث عن عمل (سافرتْ زوجتي مع الأولاد الى تركيا للسياحة، لكن الذي حدث قدوم رجل بعربة حديثة الطراز أجبرني على ترك البيت، كان يحمل بيده سنداً ممهوراً بعدة أختام من جهات رسمية يثبت ملكيته للبيت)، كانت نبرة الألم واضحة بحيث طلب مشرف المقبرة من الحارس أن يجلب له الشاي والماء، ثم أعطاه سيجارة. مسح دموعه وكظم حزنه. 
لقد تأخر رفيقه. أخبره بأنه سيحضر عزاءً لأحد أقاربه ويعود بعد صلاة المغرب. الوقت يمضي وهو يتمشى ما بين شجرة الأثل القريبة والغرفة، ينظر في ساعته وقد تجاوزت التاسعة، (كم مرة طلب مني اقتناء هاتفٍ جوّال، لكنني كنت أرفض الفكرة، الآن شعرت بحاجته) كان يحدّث نفسه. تائهاً في عوالم ضبابية، منقطعاً عن العالم الخارجي، هي رغبته حين أتى للعمل حارساً في مقبرة، حين قرر أن لا يخرج منها، فالطعام تكفّل رفيقه بجلبه مع الاحتياجات الضرورية الأخرى، (أريد العزلة تماماً، لقد مللت الحياة في الخارج).
   اقترب منه كلب لم يره من قبل، أخذ يحرّك ذيله للأعلى ويزحف إليه ببطء، وحين دنا احتكّ بساقه مداعباً، بادلَهُ بتمسيد رأسه، ثم جلب له شيئاً من بقايا طعام الغداء، استأنس الكلب وراح يهزّ مؤخرته ولسانه يتدلّى معبراً عن شكره، عندما نهض يتمشى التصق الكلب بساقه. دخل الغرفة، وحين تمدّد على السرير حاول الكلب أن يصعد الى جواره، لكنه منعه، بتربيتةٍ خفيفة على رأسه، استرخى وأغمض عينيه. الكلب تكوّر الى جانب السرير. دخّن كثيراً ولم تعد لديه شهية للعشاء، وما بين لحظة وأخرى كان يشعر بضيق في التنفس وصداع، حاول أن ينهض لكنه بدا عاجزاً عن تحريك بدنه، تصاعد منه أنين خفيف، وبالكاد فتح عينيه، ازداد أنينه وتراءى له ما يشبه الدّخان، رؤيته لظلال أشخاص عاودته مرة ثانية، لم يستطع أن يميّز هل هي فعلاً أمامه أم في ذهنه، وما بين الجلبة البعيدة وما شعر به الليلة، داهمته آلام الرأس والصدر، أحسّ بولوج شيءٍ خفي الى بدنه، سرت قشعريرة في كامل جسمه، وسال لعاب كثيف من إحدى زاويتي فمه، أنينه بدأ يخفت ما ان ظهر خيال رجل مهلهل الثياب ذي مسحة شاحبة، وبصوت يشبه حفيف أوراق الأشجار قال له: (ما أجمل أن تحتضن أولادك بعد فترة غياب، هل تمنحني فرصة؟)، ولأنه شبه مشلول لم يستطع أن يتحرك، فقط حاسّة السمع كانت تنصت لرجل الخيال (أنا يا سيدي أحد نزلاء المقبرة، منذ فترة أفكر بالحديث معك؛ لا تخف أرجوك)، راح يتكلم بنبرة أسى وعاطفة، وكأنه يثير شجن مستمعه (لا ريب ستساعدني بزيارة أولادي، فأنت أب وتدرك مشاعر الأبوّة. لقد اشتقت لأبنائي، دعني أزورهم، أدخل في أحلامهم، أقبّلهم، أشمّ أريج مناماتهم، احضنهم حدّ الإنصات الى نبض قلوبهم، فقط ساعات لا أكثر، فحرّاس الجثث يأتون قبل صلاة الفجر لإجراء التعداد، وأخاف من العواقب اذا وجدوا قبري فارغاً، لذا سأستعين بجيراني كي ينقلوك مكاني).
ازداد أنينه واهتزّ بدنه بشدة، من حوله طافت ظلال بأحجام وأشكال مختلفة، واندفع دخان كثيف ملأ فضاء الغرفة. شعر بجسده يختض ويرتفع، مثل ورقة شجرة يابسة تحركها يد القدر؛ همدَ في حفرة عميقة، ولم تبقَ في ذاكرته سوى كلمات مبهمة وضباب أسود كثيف.