غياب النسويَّة النقديَّة

ثقافة 2021/01/25
...

موج يوسف
ظلت الثقافة العربية لقرون تردد قفا نبكِ، وهل غادر الشعراء، فجاء الذي غير النسق المغنى والمعتاد عليه منذ عهود قائلا: "قل لمن يبكي على رسم درس.. واقفاً ما ضر لو كان جلس". فحين اختلف عنهم أحدث انعطافة في مسار الشعر، والتجديد الثقافي عندما زلزل الأرض الأدبية الساكنة، لكن من بعده لم يطرأ أي استحداث آخر، بل بقيت التنظيرات النقدية مقتصرة على سلطة خطابية أحادية تتراوح قيادتها بين (الفكر، والعقيدة، والنقد، والأدب، والثقافة) والحاكم واحد هو الخطاب الذكوري المهيمن عليها، وصار هذا الأخير يمثل في بنيته التاريخية لما يعرف بمفهوم (المعرفة التجريبية) وتعد شكلا من أشكال النظام الثقافي. يمكن القول إن الرجل صار هو الآخر بالنسبة للمرأة كما الثقافة العربية والغربية (الأنا والآخر). 
وبهذا تبدو قضية الخطاب النسوي بحاجة إلى ابتكار وتنظير لكونها غائبة عن المشهد الأدبي لعصورٍ مضت، وتحتاج إلى الجمع بين الفكر والنقد، وهذا ما حدث في عصرنا الحديث بريادة الشاعرة والناقدة نازك الملائكة التي احتلت الصدارة في الممارسة النقدية عندما خرجتْ عن السلطة الأبوية البطريكية وقد استطاعتْ أن تحققَ استقلالاً نقدياً، واختلافاً في نسقيّة الشعر العربي، ولا نغالي أن قلنا إنَّها صاحبةُ نظرية نقدية وفكرية كالتي هي في الغرب عند إليوت وبودلير. 
ولا نريدُ الوقوفَ طويلاً على طلل الراحلين الرواد، بقدر ما نود البحث في الفراغ الذي حصل بعد الرواد المجددين،لاسيما الذي تركته نازك الملائكة عندما انشأت منبراً نسوياً فظل بحاجة إلى إعادة اعتلائه مرة أخرى وتواصل مسيرة الريادة النسوية في النقد. وعند بحثنا عن أقلامٍ نقدية نسويّة في العراق لا أجزم بالقول إني عثرت على محاولات منفردة، وهذه المحاولات لا تكادُ تشكل ظاهرة ولا تحقق ريادة، ولا تُعزز هويّة خطاب نسويّ، وما لاحظته أن النسويّة النقدية في العراق واقعة بين شباك النظريات النسوية المستوردة من أوروبا وأميركا تسلحتْ بها الكاتبة والناقدة العراقية بما جاءت في طروحات وآراء سيمون دي بوفوار، توني موريسون، وفرجينا وولف وغيرها، وما بين من تبنتْ الخطاب النقدي البطريكي، الذي ظل سمة النقد المعاصر في مختلف مستوياته، فلا نكاد نميّز الناقدة والناقد، لأنَّ الخطاب الأبوي واحد.
وثمة مسألة تبدو أكثر أهمية، فعلى مستوى الدراسات الأكاديمية العليا في العراق نلحظ العديد من الباحثات قد تخصصن في أبحاثهن بـ(النقد الحديث) وكتابة المقال واحدة منهن، لكنَّ يبقى السؤال أين جهودهن النقدية الفعلية في الساحة الثقافية؟ مهما كانت الإجابات والتعليلات لا تبرر حجم الانحدار الثقافي والغياب الواضح لدور الناقدة وما نعانيه اليوم من تدني ثقافي وفكري، فالخطاب النسوي المختلف عن الآخر يكون قادراً على التحكم في الفعل الثقافي ـوالذي بدا هشاً وضعيفاً مؤخراً- وبإعادة تأسيس لغة نسوية ذات فكرٍ ونقدٍ يتجاوز الفرضيات الثقافية حول الإمبريالية والهيمنة. 
وهذا التأسيس لا يأتي بشكلٍ اعتباطي أو بسبب ردّ فعل وانما يأتي - بحسب وجهة نظرنا- من إعلان موت التاريخ أو الخروج عنه والإلحاد بما قدمه من أحداث كتبتُ تحت أدلجة السلطات، الأمر الآخر هو إعادة تفكيك الجهورية الأفلاطونية وعدم إتباع وتقليد نظرياتها ومن سار على الخطى نفسها من بعدها، والأهم هو التجرد من كل ماهو ديني ويمكننا صياغة العبارة بشكل أدق لبيان فحوى الفكرة وهو أن نقوم بـ(الإلحاد بالثالوث المقدس)، أي: التاريخ والفلسفة والدين الممثل لسلطة البطريك، هو الذي يؤهلنا لمرحلة الابتكار لفكر ونقد نسوي وتحقيق الحضور الفعلي، لأنّ غياب النقدية النسوية لاسيما في العراق جاء بسبب التقليد والإتباع كما أسلفنا هو وقوعه في شباك البطريك ونظريات الآخر النسوي الغربي.
والحق أن الخطاب الذي تنتجه المرأة الكاتبة أو الناقدة التي تبحث ما وراء النص، يكون له تميز وخصوصية، وهويّة، لأنّها حتماً بعد ممارسات تجريبية تكون قادرةً على شرح أفكارها، وتعارض الآخر، بل تتغلب عليه وهو بدوره يقوم بالتسليم للشروط. 
أعلم أن المرحلة التأسيسية والحضور الفعلي للنقد النسوي أو إعادة انتاج خطاب نقدي عام مستقل في العراق أولاً ومن ثم عربياً يتطلب ممارسات تمتد لأعوامٍ طويلة، وتجارب وثورات كثيرة، لأجل النهوض والابتكار. واكتشاف الخلل، وتحديد العلة هو البذرة الأولى للحصول على شجرة دائمة الإنتاج، وأساسٌ متين لصياغة هويّة مستقلة أرض نقدية صلبة.