تأثيرات الحرب ونضج فتوة الأبناء في قصيدة لبرودسكي

ثقافة 2021/01/25
...

محمد تركي النصار
 
ولد جوزيف برودسكي عام 1940 في بطرسبورغ، وعانى من مشاكل سياسية كثيرة مع الحكم السوفيتي الشمولي السابق، وتم نفيه عدة مرات، ومحاكمته وبعد تدخل العديد من الأدباء الروس أطلق سراحه، وقرر الرحيل إلى اميركا في بداية سبعينيات القرن الماضي. 
ويعد برودسكي أصغر شاعر يفوز بجائزة نوبل للآداب التي حصل عليها عام 1987. أصدر العديد من المجاميع الشعرية منها نهاية عهد جميل، وجه المأساة، الى يورانيا، اغنية بلا موسيقى، ومجموعته الأخيرة (وهلم جرا)، وله كتاب المقالات النقدية التي جمعت تحت عنوان أقل من واحد. توفي في مدينة نيويورك عام 1996.
قصيدة (اودسيوس إلى تليماك) لبرودسكي تبدأ بحديث بطل الملحمة الأغريقية الاوديسة مخاطبا ولده تليماك. ومنذ بداية القصيدة لايوجد شك حول هوية المتحدث ومن يصغي اليه وهذا مايمنح النص قدرا من الوضوح الذي يساعد القارئ في تأويل وقائع القصيدة كما 
يصفها الشاعر.
يبدأ اوديسيوس حديثه بإخبار ولده بأن حرب طروادة قد انتهت وهي حرب معروفة تاريخيا لذلك فإن النتيجة والمنتصر لا تبدو مهمة بالنسبة لاودسيوس، فهو جاء للحرب بالضد من ارادته وامضى عشر سنوات فيها وهو الآن في طريق عودته إلى مدينته الأم ايثاكا. 
الابيات الاولى تعطي رسالة لتليماك عما حصل وكيف أن الحرب غيرت والده اوديسيوس الذي يعيش حالة ذهنية مرتبكة الآن تجعله لايتذكر من انتصر في الحرب متوقعا أنهم الأغريق نظرا لما قدموه من ضحايا فيها:
عزيزي تليماك
لقد انتهت حرب طروادة
التي  لا أتذكر من انتصر فيها
لكن من الواضح أنهم الإغريق
فلا يمكن لغيرهم
أن يقدموا هذا العدد الكبير من الضحايا 
في البلاد البعيدة.
 تبين الأبيات الثلاثة الأخيرة من هذا المقطع بشكل واضح بأن اودسيوس هو في طريق عودته إلى وطنه وهو الآن في منتصف سنوات غيابه العشر كما هو مفصل في الأوديسة، ويبدو له بأن إله البحر بوسيديون قام بتمديد المسافة بين البحر حيث يقفون الآن وايثاكا لذلك استغرقت الرحلة وقتا أطول من  المعتاد:
  طريق العودة للوطن لايزال طويلا
وبينما كنا نضيع وقتنا هناك
فان بوسيديون إله البحار
 كما يبدو تمدد 
فوسع المسافة 
في المقطع الثاني من القصيدة يعبر اودسيوس عن مخاوفه وقلقه على سفينته والمرافقين له قائلاً بأنه لايعرف أين هم الآن وما اسم المكان الذي هم فيه، ويخبر ولده بأنه وبسبب كثرة ترحاله فإن الجزر جميعها تبدو متشابهة له والمتاعب التي واجهها في رحلته جعلته منهكا، وعيناه موجوعتان من كثرة النظر إلى آفاق البحر، ويبدو في حالة محو للأحداث التي سبقت مشاركته في حرب طروادة:
لا أعرف أين أنا 
ولا اسم هذا المكان
وكما هو ظاهر فهي جزيرة قذرة.....
بالنسبة لهائم جوال مثلي
تبدو الجزر كلها متشابهة.
ورحلات العقل
الأمواج اللامتناهية، والعيون 
الموجعة كلها
من آفاق البحر،
تهرب.
وفي المقطع الأخير ينظر اودسيوس للمستقبل وكأنه يودع تليماك متنبئا بأنه وبسبب خطورة الوضع الذي هو فيه فإنه قد لايتمكن من العودة إلى بلده، موصيا ولده بأن يكبر ويكون قويا لمواجهة تحديات الحياة الكثيرة غير عارف بأنهما سيلتقيان مرة أخرى:
اكبر ياولدي تليماك، اكبر قويا.
فالآلهة وحدها تعلم 
ما اذا كنا سنرى بعضنا مرة أخرى
وأنت الآن لم تعد ذلك الطفل الذي أقود
أمام عينيه ثيران الحراثة.
اودسيوس يعرف الآن بأن ابنه لايحتاج اليه كما اعتاد من قبل عندما كان طفلا يقود أمامه ثيران الحراثة هنا يشير اوديسيوس إلى ماحدث عندما طلب منه في البدء أن يشترك في حرب طروادة ومحاولته التملص متظاهرا بالجنون، لكنهم وضعوا ابنه تليماك أمام ثيران الحراثة لاختبار قدراته العقلية فاتضحت سلامته مما اجبر على المشاركة في الحرب مؤكدا لابنه بأنه حتى لو كره الابتعاد والمشاركة تحت ضغط بالاميديس الذي قام بمهمة إقناعه بالمشاركة إلا أنه غير نادم مؤكدا بأن افتراقهما يصب في صالح تليماك الذي تحرر من العقد الأوديبية وتعلم كيفية الاعتماد على نفسه: 
ولولا حيلة بالاميديس لكنا نعيش الان في منزل واحد .
لكن ربما كان على حق 
فبعيدا عني أنت في مأمن من كل الهواجس الاوديبية
وأحلامك، ياولدي تليماك أصبحت مجللة بالنقاء.