وعي الأم ثروة للمجتمع

آراء 2021/01/25
...

  د.سلامة الصالحي 
 
يكتسب الوعي القيمي والمعرفي والثقافي أهمية بالغة في ارتقاء المجتمعات وتطورها، ولا يقتصر الوعي على المعرفة العلمية او الاطلاع الثقافي، بل هو مجموعة قيم انسانية رفيعة ومنظومة جمالية روحية يكتسبها الانسان من خلال التربية والتجارب والحس في التعامل مع الحياة وخبراتها، ويمنحها واقعا وأسرة تحرص كثيرا في الحفاظ على أفرادها من الانحراف، بعيدا عن هذه المنظومة، وعند اشاعة هذه القيم لتصبح ثقافة كلية ومجتمعية، ولتكون الثقافة والمعرفة هي الينبوع النقي الذي يغذي هذه القيم والسلوكيات الروحية الراقية، 

ستضمن المجتمعات حصانتها ورقيها وستقف في مقدمة الشعوب الصالحة للحياة والنافعة للبشرية، مهما كان عددها هائلا أو قليلا، لتأخذ هذه القيم مداها الفعلي في سلوكيات الناس وتعاملاتهم الانسانية، تلعب الاسر ومن يديرها من النساء، فالأم أو الأخت أو الزوجة او الأبنة، هي المؤسس والراعي الأول للأسر في مجتمعاتنا الشرقية والعربية تحديدا، حتى وإن كان الرجل هو الحامي والمدبر لهذه الأسرة، فإن ما وراء الستار تقف النساء وراء أهم وأصعب الامور في رعاية الأسرة، بدءا من الطفل الرضيع وتربيته، ورعايته وتغذيته برحيق هذه القيم 
وعظمتها.
فالأم ليست ذلك الكائن الراعي بايولوجيا، فقط بل هي الراعي أخلاقيا ونفسيا عبر شعور غامر بالمسؤولية، تجاه ابنها أو بنتها واتجاه المجتمع والوطن، ومن هنا تبرز أهمية الوعي وفاعليته في توجيه حياة المرء والمرأة بالذات لأنها الاساس الاول والبذرة الاولى في هذا الكيان القادم للحياة وهو الطفل، الذي يبدو كالعجينة ممكن أن تصونها الأم ولا يغفل دور الاب أيضا في الرعاية والمتابعة، ولكن للأم ذلك الخيط الخفي من التأثير عبر صلتها البايولوجية بالطفل، منذ إن كان جنينا في رحمها، وهنا يجب أن تعي جيدا الامهات دورهن العظيم في الحياة، وأن يمنح المجتمع والرجل هذا الدور، احترامه وتقديره، يقول رئيس الهند وعالم الصوريخ والفضاء المسلم زين العابدين عبد الكلام، إن ما وصل اليه من مكانة وارتقاء أخذت بالهند الى مصاف الدول المتقدمة واللحاق بمجتمعات المعرفة والتطور، كرئيس دولة وعالم كبير، هي لتلك البذرة الصالحة التي غرستها أمه في روحه بذرة العطاء والايثار وحب الوطن والناس، رغم تعليمها البسيط ومعرفتها القليلة ولكنها كانت تحمل ذلك الموروث الجميل من القيم الاساسية في بناء الانسان بناء صحيحا وراقيا، أخذته من تعاليم الدين بكل فضائله التي تحمي الحياة والروح البشرية، من ما تختزنه من زهد وايثار ومحبة، فمنحت هذه الأم فردا للمجتمع والبشرية، كان مثل منارة استنارت بها أجيال عم عطاؤها وخيرها الى بقية الشعوب، فالشعب النافع لنفسه نافع ايضا لبقية الشعوب، والذي ستكون روحه تائقة للبحث والاستكشاف والتطور، الذي سينعكس مانحا عطاءه للبشرية 
أجمع.
ولا يخفى علينا ما حدث لليابان والمانيا بعد الحرب وكيف كان للنساء الدور العظيم في أعادة بناء بلدانها حجرا وبشرا وتقف خلفهن قوانين ومؤسسات، شجعت بكل إخلاص تلك النهضات العظيمة التي ارتقت بالشعوب نحو التقدم والكرامة والزهو أمام شعوب العالم، وباتت مفخرة للأجيال وأيقونات ودليلا لحياة قادمة بكل قوة ازدهارها وشموخها، وبعد أن ورثنا تركة ثقيلة من هموم الحروب والحصار الذي أنهك قوانا وبنيتنا التحتية، ومجيء الاحتلال الذي حاولنا أن نوهم انفسنا أنه الضوء في آخر النفقن نفق الحصار والحروب والطغيان، للنهوض من سبات التاريخ الذي مررنا به وعزلتنا القاسية عن العالم، والتي نشبت منها قيم جديدة وغريبة على الناس وخلخلت موازين كثيرة، وانقلب الاسود والأبيض الى منطقة رمادية لا نزال نعيش فيها،دون أن تفكر الناس بالخروج منها وعزل الاسود والظفر بما هو أبيض ونقي يأخذ بيدنا الى جادة التقدم والرقي، الذي صرنا كل يوم نتراجع عنه، ونبتعد ونحن نرى كما هائلا من الخراب والاحقاد والتحاسد ومبدأ التغالب والاستئثار، بما هو ليس حقا، والتي شاعت وبشكل يدعو للقلق والخوف مما ينتظرنا من خراب قادم أعنف وأخطر وأشرس، أن لم نتدارك الأمر ونقف وقفة المحاسب للنفس وللآخر، وأن نصرخ بأعلى صوت، كفى، كفى لكل هذا الخراب الموحش وهذا الدمار الذي يقود الناس الى حتفها، والذي لم يعد مقتصرا على مجموعات صغيرة وأفراد، بل صار شائعا ومتفشيا الى حد الرعب، وأصبح الناس الرافضون له أقلية مرعوبة وخائفة، فالبلاد التي تقف على حافة الهاوية، بسرقة ونهب مواردها على أيدي عصابات منظمة ومشرعنة، لا يمكن أن نغفل ان وراءها تقف عوائل وتوجهات، وممارسات جديدة من الايحاء بالثراء السريع والفاحش على حساب البعض، ومبدأ المغالبة الذي صار من البشاعة حد أن نكتفي بالعزلة والصمت، ولا يقتصر هذا على التعامل الرسمي والعام، أنما امتد الى داخل العائلة وصار الناس لا يرحمون بعضهم حتى في داخل أسرهم، وتعاملاتهم اليومية، عبر أكل حقوق بعضهم، فجرثومة الشر تنمو بشراسة وتتكاثر كالنار، إن لم يسرع المجتمع وبوعي حقيقي وانساني الى الحد منها وايقاف نموها، فالمرأة التي تدير الأسرة وترى ما ترى من أخطاء وسلوكيات شائنة، يجب أن تقف موقفا صحيحا وتصرخ بالرفض والمحاسبة، وصفع من يهيم بخطئه لإيقاظه، سواء كانت أما أو زوجة أو بنتا أو أختا، فقد لا ينتبه الانسان الى خطأه، الا بصرخه توقظه، ومن هنا تبرز أهمية أن تكون المرأة واعية ومسلحة بالقيم الجميلة، التي تحافظ فيها على أسرتها وتحميها، ولا يقتصر هنا الرفض على الصرخة والرفض، بل على مجمل السلوكيات، التي تمارسها المرأة والتي يجب أن تكون محصنة أخلاقيا أيضا بالعمل وادارة مؤسسات الدولة.
فالمرأة الصالحة هي التي لا تدخل أموال السحت والحرام والرشى الى بيتها، حتى لا يكتسب أولادها هذا السحت عبر خبز ملوث بجرثومة الخطأ، الذي سيسري من دون أن تدري الى دماء أبنائها ويعطي جيلا خاطئا، ينشر ذلك الجرثوم الذي جاءت الام به الى معقل النشأة والتربية، التي هي مسؤولية أمام الله والضمير والناس، وبهذا تكون المرأة هي البذرة الصالحة أو الخبيثة التي يتلقاها الفرد، ليمنحها الى مجتمعه وأسرته القادمة، ولا ننسى دور الرجل وقوانين الدولة في حماية المرأة من السقوط والزلل، الذي قد يجر معه مجتمعا بكامله للسقوط خلفها عبر أساليب كثيرة معروفة للجميع، فالمال المنتهك والمسروق يعيد لنا قصة تلك الأم التي لم تسأل طفلها من أين أتى بهذا المال، لينشأ لصا، يتمترس خلف تشجيع الأم ومباركتها، الارض أم ، أنتجت البشر، والأم هي الأرض التي من الممكن أن تخرج منها الملائكة أو الشياطين، عبر تعاليمها وقيمها التي ترسخها في رؤوس أطفالها، ولا ننسى أن السنين الاولى من عمر الطفل هي الأهم على الاطلاق في تأسيس حياة الأنسان، للخير أو الشر، تتبعها مدارس تديرها على الأغلب نساء ايضا من الممكن أن تكون الاسرة الثانية، التي سيخرج منها الملاك او الشيطان، وبالحصيلة سيكون المجتمع الصالح والايجابي المحمي بقوانين صارمة وصحيحة، هو المربي الكبير الثاني للانسان رجلا كان أو أمراة، فكلما كانت منظومة القيم الجميلة مشتركة جماعيا ويحرص الكل على احترامه وصيانته والحفاظ عليه، كلما كانت المجتمعات اكثر عدالة وسعادة ورقيا.
فالنظافة ثقافة مجتمعية يجب أن تشيع في المجتمع ويتبادل الناس مفاهيمها باحترام وصدق، والنظافة هنا مفهوم مشاع لا يعني الشارع فحسب، بل يعني كل ما يتبع ذلك من نقاء النفس واحترام وجودها وكرامتها، بصيانتها من الوقوع في هاوية الخطأ، أيا كان شكله وحجمه، بدءا بالاعتداء الشرس على المال العام أو برمي عقب سيكارة في الشارع، او انتهاك حرمة المجتمع بأي تصرف قاس أو شائن يأخذ من جرف راحة الناس وكرامتهم ومسار حياتهم الصحيح، والذي بالنتيجة إن شاع ينتج مجتمعا ضعيفا خائرا يحصد الخيبات والخسارات والأوجاع، وهنا تقع المسؤولية على الجميع في وقفة بطولية ورفض ما يجري،عبر اشاعة مفاهيم الخير والحق والجمال والعدالة واحترام قيمة المرأة ووجودها مجتمعا وأفرادا، لتنشئة جيل صالح وأوطان سعيدة تنعم بخيرات بلدانها وعدالة تشيع عبر قوانين تضعها مؤسسات تشريعية تضع حدا لكل هذه التناقضات، التي شاعت وأتعبت الناس وأوصلتها الى مراحل اليأس والبؤس المخيفة، فلنتراحم بيننا، ونحفظ الأمانة التي صار خيانتها وذبحها من أبسط الأمور لدى الكثير من الذين اؤتمنوا عليها وشاعت الانانية وحب الذات المرضي، الذي شظى المجتمع الى طبقات متنافرة وفوضوية، من دون نظم وأخلاق حرصت الحضارات المتتالية في هذه البلاد على ترسيخها والحفاظ عليها، والتي نراها اليوم في خضم الضياع والفوضى.
فالوعي الجميل حين تحوزه النساء مهما كانت بسيطة الثقافة وتمنحه لأسرتها بقوة ورصانة، سيكون هو الضوء الكاشف الذي ينير درب الانسان ويجعله فردا نافعا وصالحا، يأخذ بهذا الضوء لإنارة دروب من يأتي خلفه، وأن تتلاشى وتنقرض هذه القيم الدخيلة، التي تمجد الأخذ والاستلاب غير المشروع، التي جعلت من المجتمع والبلاد، لعبة بيد المجتمعات الأخرى وصرنا مستهلكين لا منتجين، وخاملين بلا فاعلية، وتوقفت الحياة عند مبدأ الأخذ لا مبدأ العطاء وحفظ الكرامة والقيم.