كبارنا

ثقافة 2021/01/26
...

د.أحمد الزبيدي
 
حدّثني الراحل، خالد علي مصطفى، عن قصيدة تأبطّها السياب إلى إحدى الصحف؛ لنشرها؛ فأثار عنوانها (أنشودة المطر!) فضوله وأراد أن يطلع عليها. وحين أدرك السياب دهشة خالد أخبره بأنها محاولة جديدة لقصيدة أنشودة المطر، وهنا شاكسه خالد سائلا:  أيمكن أن تُكْتَب القصيدة مرتين.. أيمكن إعادة كتابة القصيدة ؟! 
وبعد صمت وتفكير(مزّقها) السياب وألقاها في القمامة لا في الصحافة.. ورحل الشاعران: السياب وخالد، ولم أقرأ لهما هذه الحكاية ولا سيرتها، ولم أجد من دوّنها في مذكرات ومنبهات.. ويالله كم تدّخر حكايات الشعراء الضائعة من قيم نقدية وثقافية واجتماعية وجمالية؟!، وكم تكتنز من طاقات توثيقية وتفسيرية تسد الطريق على تجار التأويل، وأصحاب المنافع والمصالح والمكاسب الإيديولوجية.. وتنمو هذه الإشكالية مع عدم تدوينها من أصحابها، أو إنهم إن فكروا في تدوين مذكراتهم ومواقفهم (الشاهدة) على الشعر والنقد والثقافة ولكن تعوزهم دار نشر تنصفهم وتنصف أعمارهم ومكانتهم.. 
وإن فكر الكبير بنشرها في دار الشؤون الثقافية فلربما سيوقع على الغلاف في حفل التوقيع أحد أبناء المؤلف (الكبير) أو أحفاده؛ لأن الكاتب وبعد طول انتظار أصبح مرحوما بل نال درع (الشاعر الكبير) لا غير! .   
ولا يمكن – كمثقفين - أن نقف على حافة التشخيص للظواهر السلبية وتعليل أسبابها، فمسؤوليتنا تنهض بتدارك (البقية الصالحة) من الكبار والجلوس إلى جوارهم واستنطاق مواقفهم وتدوينها عبر حوارات ومقابلات.. وخاصة أنّ نِعَم التكنولوجيا جعلتنا نستطيع أن نجتمع معهم في لحظة واحدة، وهي النعمة نفسها التي أحسنها الشاعر الكبير سامي مهدي؛ فيذكر لنا موقفا وشاهدا على الحل والعقد ما يُغني عن حكة الرأس. ولعل بعضها قد دوّنته (ذاكرة الشعر/ رؤى ومواقف ومراجعات).ولكن كم من شبيهاتها غيبها الموت والنسيان والتجاهل؟! 
 ولربما من الأنساق الخفية وراء ضعف التدوين هي التقلبات السياسية المفاجئة والتحولات الإيديولوجية، التي كان الشاعر جزءا من منظوماتها الفكرية والثقافية، ولعل سوء الحظ الأوفر سهولة توجيه التهمة للشاعر من دون سواه من أصحاب الركب الثقافي؛ فطالما كان الشعر شاهدا على المرحلة وسريع الاشتعال فيحرق صاحبه.. بخلاف الأنواع الأدبية الأخرى التي يمكن أن تغض الطرف عن اتهام صاحبها من دون أن يلومك أهل السلطة الجدد! ولماذا نحفظ ما كتبه الشعراء من قصائد وندرك خلاتهم العروضية ولا نشخص مواقفهم الثقافية؟ ولماذا تصبح القصيدة التهمة الأولى والأخيرة على (ظلم) الشاعر ولا نذكر مواقفه الإنسانية النبيلة التي أنقذت حياة صديق شاعر أو غير شاعر؟ رحم الله العربي (القديم) الذي قال: لم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره.