دوافـــع الشعر والعلم

ثقافة 2021/01/26
...

عبدالزهرة زكي
في جانبٍ عميق منه يبدو عملُ الشاعر في الشعر قريبَ الشبه بعملِ العالم في العلم. فكلاهما منشغلٌ بحقلٍ لا يمكن الانشغالُ والانتاج به من دون البقاءِ فيه وفي الداخلِ من حدوده والتقيّدِ بهذه الحدود.
بالتأكيد أن الشعر، وكذلك العلم، يتنافذان مع حقول أخرى، مؤثِّرَين ومتأثرَين، لكن هذا تنافذ تتحصن أزاءه إجراءات الشعر والعلم بالانهماك في حيّز التخصص والرفعةِ فيه.  
وقد يكون تعبيرُنا أكثر وضوحاً ودقة إذا ما قلنا إن الإنتاج في الحقلين لا ينبغي له أن يقترن بدافع آخر، كالدافع السياسي أو العاطفي او الأخلاقي، لكن من الممكن له، أي للإنتاج الشعري أو العلمي، أن يفيضَ بمحصول من شأنه تعضيدُ ومؤازرة أهدافٍ سياسية أو عاطفية أو أخلاقية.
الدافعُ الأساس للعملِ والنجاح بالنسبة للشعر والعلم هو الإخلاص المحض لهما، هو النأي بالنفس، من قبل الشاعر والعالم، ومن ثمَّ بالمنتج الشعري والعلمي عن الخضوع لتخطيط مسبَقٍ يفرض سطوته ويوجِّه آليةَ الانتاج ونوعَه.
يصحُّ هذا المبدأُ حتى مع أكثر نصوص الشعر تأديةً لمضامينَ سياسيةٍ أو أخلاقية. المضامين تأتي بدافعٍ شعري خالص، والمواقف السياسية والأخلاقية تنفذ بالدافع نفسه ويجري بعد ذلك استحصالُها والوقوفُ عليها كنتيجةٍ من نتائج الشعر وليس الهدفَ المباشر والطاغي.
في شعرنا العربي القديم سيكون مثال المتنبي هو الأشد وضوحاً في تعبيره عن التزام الشعر بحدوده. لم تخضع أية قصيدة للمتنبي للتعبير المباشر عن أهدافه السياسية في الحياة، لكن شعره بمجمله طافح بما يفصح عن الطموح والمعاناة السياسية التي ظلَّ يكابدها أبو الطيب طيلة عمره في الحياة والشعر. وفي الحقيقة لا يقف شعر المتنبي عند حدود مشكلته السياسية، فهو يتجاوزها إلى ما هو أبعد حيث يشفّ عن مواقفه الفكرية ومعتقداته وانحيازاته من دون أن يقولَ ذلك أو ينفقَ من أجلِه جهداً شعرياً مباشراً ومصمَّماً تصميماً مسبقاً. إذ يستطيع القارئُ النبيه أن يقفَ على طبيعة تفكير الشاعر وأن ينسبَه إلى اتجاهٍ أو فرقة أو جماعة أو إلى ذاته بانفرادها ووحدتِها حتى من دون أن يقولَ المتنبي ذلك. وما كان المديحُ والهجاء، وقد استغرقا من الشاعر معظمَ عمله، إلا قشرةً جعل منها المتنبي، وهو الشاعرُ الماهر، وسيلةً لا وسيلةَ سواها ليُودعَ تحت طبقاتِها طبيعتَه الحقّة بكلِّ ما تنطوي عليه هذه الطبيعة. الشعرُ عملٌ باطنيٌّ محض.
مهنةُ الشاعر ومبرّرُ وجودِه في الحياة هو عملُه الشعري، وهذا ما يستلزم منه تكريسَ كلِّ ما في حياتِه وعقله ووجدانه لصالح هذا المبرر، وهكذا تَنْفذ المواقف والأفكار والقناعات والعواطف إلى النتاج الشعري من دون تخطيط ولا إرادة مسبقة. ومن ثمَّ فإن الشعر هو ما يعيد تصميم هذه المؤثرات وليست هي التي ترتِّب وتصمّم الشعر.
في العلم أيضاً تبدأ الفرضيات وتصاغ النظريات وتتحقق المنجزات من دون هدف مسبق سوى هدف الإخلاص للحقائق والمعرفة. لكن في الغالب ما تُستَثمر نتائجُ العلم وفرضياتُه في ميادين أخرى، كالسياسة والأخلاق مثلاً. عمل العالِم هو في ذلك المجال المفرّغ من أي مؤثِّرٍ أو نتيجة تترتب على منجزه العلمي.
في كتاب عن سيرة عالِم الأحياء والطبيعة والجيولوجيا ثم التطور تشارلز دارون، وهي سيرة وضعها من بعده نجلُه فرانسيس دارون، الكثيرُ من الرسائل التي كانت تأتي للعالِم من مختلف البلدان وجلُّها كان يستفسر من العالِم عن رأيه بالدين ونشأة الخلق، وهو اهتمام لم يكن في وارد تفكير دارون أثناء بحثِه وتفكيره وخلاصاته منهما. كان باعثو الرسائل مثقفين بتخصصات مختلفة بينهم أكاديميون وباحثون وكتّاب، وكان هؤلاء يطلبون من نوبل ما لا يملك. لم يكن الرجل فيلسوفاً أو مفكراً، ومن ثم فهو غير مؤهّل للخوض في مجال آخر غير مجال عمله العلمي المحض. من بين هذه الرسائل وقفتُ عند رسالةٍ كانت قد جاءته من صحيفة ذي إندكس. كان صاحبُ الصحيفة فيها يريد استكتاب دارون ويبدو من سياق ردِّ دارون عليه أن الاستكتاب يحدّد العالِم بمقالاتٍ عن الدين والخلق، يعتذر العالم عن ذلك بالقول: «لا أستطيع إتقان الموضوعات الجديدة التي تستلزم قدْراً كبيراً من التفكير، ولا أتناول إلا الموضوعات القديمة. إنني لم أكن قط مُفكراً أو كاتباً سريعاً، وكلُّ ما حَقَّقتُه من إنجازات في مجال العلوم يُعزى إلى التفكير الطويل والصبر والمثابرة”. ويعلل عجزه عن ذلك بالقول: “إن صحتي ضعيفة للغاية: لا يحدث «أبدًا» أن أقضي ٢٤ ساعة من دون أن أعاني فيها من التعب لساعاتٍ طويلة لا أكون قادراً فيها على القيام بأي شيء على الإطلاق. ونتيجةً لذلك، ضاع عليَّ شهران كاملان متتاليان في هذا الفصل. وبسبب هذا الضعف، وكذلك دُوار رأسي، لا أستطيع إتقان الموضوعات الجديدة”، ثم يخلص إلى النتيجة التالية: “حسناً، لم يسبق لي من قبل أن فكَّرتُ بنحوٍ منهجي في الدين وعلاقته بالعلم أو في الأخلاق وعلاقتها بالمجتمع، ومن دون أن أُركِّز تفكيري على مثل هذه الموضوعات لفترةٍ «طويلة» لن أكون قادراً حقّاً على كتابةِ أيِّ شيءٍ يستحق النشر في صحيفتك”. 
وهذا اعتذار يفصح دارون بموجبِه ويفصل تماماً ما بين عملٍ علميٍّ خالص وعملٍ آخرَ يُعنى بالصلة ما بين المتحققِ النظري العلمي ومجالاتٍ أخرى كالدين والأخلاق، هذا العمل الآخر قد يكون من شأن آخرين معنيين بالفلسفة والفكر الديني وليس من مسؤوليات العلم والعلماء الذين يلزمون جهودهم بحقول تخصصهم حصراً.
لقد عاصر دارون (خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر) عالِماً آخر هو الفرد نوبل، الكيميائي والمهندس والمخترع ورجل الأعمال السويدي. ونوبل الذي يوصف بالرجل المُحسن وله اهتمام بقدرٍ ما بالشعر كان قد تورّط باختراع الديناميت وبعد ذلك بالأسلحة التي من شأنِها قتلُ أكبر عدد من البشر بأقل الجهود. كان هذا عملاً مباشراً في استثماره وحشية البشر، ومخزياً، بموجب القيم الإنسانية، من حيثُ الوعي بنتائجه. هذا موقف لم يكن فيه العلمُ مجرداً عن الدوافع والاستثمار. لم يقلق نوبل حتى وقف على فظاعة ما فعل حين أخطأت صحيفة باريسية، وكان مقيماً بفرنسا، ونشرت خبراً غير صحيح عن موته وقد حمل النعي عنواناً يقول: “تاجر الموت مات”. لقد كان من شأن هذا أن ينبّهَ المخترعَ السويدي على بشاعةِ إنجازه، ومن أجل تخفيف وطأةِ مشاعر الإحساس بالذنب فقد وُلدت في هذه اللحظة جائزةُ نوبل.