زنزانة في فضاء فسيح

ثقافة 2021/01/30
...

أحمد داخل

 
 
يدها المغبرّة من تراب المارّة لاتنقبض أبداً، وبطاقة ميلادها يوم لفظتها سجلات الأحوال المدنية، تلك الشقوق المتعرجة الدبقة التي تحملها تلافيف الكف الرطبة تحكي أمنيات ضائعة وسط زحام الآدميين، وطفولة قاسية متسخة كبذلتها التي غلفتها خطوط بيانية بيضاء تشير الى تقرير حالتها المنهكة لدورانها المزمن في أزقة البلدة، استفزت ذاكرته وقوفها المترقب، فتذكرها قبل أن يضع ورقة النقود في يدها.. يوم رآها قرب قمامة المستشفى تجمع الصفائح الفارغة. لم يتصور ما تروم فعله بهذه الصفائح، لولا عامل النفايات الذي أخبره أن هذه الفتاة ماهرة تعرف تقطيع تلك الصفائح لتعمل على ترتيق البيت مع أمها التي اعتمدت عليها في كل شيء حتى في المعيشة. (قالت شكرا عمو) ريثما استقرت تلك الورقة النقدية في يدها الرطبة. تساءل في نفسه؟ من الذي قذف بها وأمها إلى هذه البلدة وأي رحم انسلخت منه تلك العجوز التي عجزها الزمن قبل أوانها، وأية لحظات لذة انزرعت في ذلك الرحم البكر لتمنح تلك الصغيرة الحياة. الناس اعتادوها منذ دخولها إلى هذه البلدة وأخذوا يطلقون عليها تسميات عدة منهم من وصفها (أم التنك) والبعض الآخر يناديها (أم الوشم) لما يحتويه ذلك الوجه الكثير من الندب والوشم فهو ميدان عنيد يحمل في أبعاده سنين غائرة لقساوة زمن مرّ يوم حدق فيها وهي تعمل على تثبيت قطعة الصفيح التي انزلقت بفعل الريح من كوخها الذي لم يعد غريبا عن ميدان البلدة المتراكم بالكثير من المسقفات الصغيرة للباعة والمتراصفة بأشكال مختلفة باختلاف حاجات بيعهم، ولكن الكل عند آخر النهار يغادر تلك الهياكل المتهالكة ويتركها فارغة كأنها مقابر مهجورة إلا كوخ تلك المرأة تعود إليه عند آخر النهار بعد رحلة مضنية شاقة تذرع خلالها كل أزقة البلدة، لتندس بين أضلاعه البالية محتضنة صغيرتها، هي تستقرىء مع صغيرتها حالات الجو المتقلبة ففي النهارات القائضة تسرح في شوارع البلدة لتجمع ما يعطونه لابنتها، وفي الليل تفترش أرض الإسفلت الحامية بعد أن تخمد لهيبها برشقات الماء، أما في الشتاءات الباردة فتعمل على تغطية الكوخ ببقايا علب الكرتون التي رمتها المحال التجارية القريبة من الكوخ لدرء ذلك الكوخ من الأمطار وصقيع الليل البارد، ففي عملها هذا تبدو وكأنها تساعد عمال النفايات كثيراً. تساءل في نفسه؟ ماذا يكون مصير ذلك الكوخ لون أن شركات الزيوت النباتية أبدلت تعبئة منتجاتها بعلب بلاستيكية؟ لم تعد تلك التساؤلات فرضيات قائمة، ففي أحد النهارات شرعت جرّافات البلدية بكنس البيت بمحتوياته البسيطة بعد أن كانت (أم الوشم وابنتها في جولاتها الاعتيادية تطوف شوارع
 البلدة). 
لم تعد بعد ذلك تبحث عن قوتها ما لم تجد ملاذاً يؤويها وصغيرتها في هذه الأرض الرحبة التي  غصت بكوخها.. إن لتجوالها المتواصل في البلدة وفر لديها الكثير من البدائل في حالة إلغاء هذا الكوخ أو رفضه من قبل السلطات المختصة.. فهنالك عند نهاية السور المحيط بمستشفى البلدة كانت ثمة فسحة صغيرة ترمى فيها النفايات كنستها قبل عمال النفايات واختطت جزءاً منها ليكون كوخاً صغيراً. 
ولكن هذه المرة لم تكن الصفيحة مادتها الأولية في بناء هذا الكوخ فقد أحضرت حزماً من القصب التي توفرت هذه الأيام في الأسواق لتغرسها في الأرض المخطوطة واكستها بعجينة الطين المعتقة. 
لم تتصور (أم الوشم) أن تكون لهذا الكوخ نهاية أخرى لولا عبث صغيرتها بأعواد الثقاب التي ابتلعت الكوخ لتضرم به النار من كل صوب يومها كان الليل هادئا نسبياً من أنواع الوميض الذي بات مألوفاً هذه الأيام، الناس الذين يسكنون البيوتات المقابلة للكوخ يغطون بنومهم إلا (أم الوشم) التي أفاقت على صراخ ابنتها وهي تستغيث، لم يعبأ من استيقظ على ذلك الصراخ فهم لم يدركوا خطر تلك النار ما دامت بمنأى عن بيوتهم. 
فالكوخ حدد مكان ألسنة النار اللاهبة، وما هي إلا برهة من الوقت حتى خمد الكوخ في مكانه رماداً، ولم يعد له أثر، (أم الوشم) التي تعلقت بصغيرتها أخرجتها وهربتا باتجاه الشارع الرئيس لتندس بين جمهرة الناس
 تراقب.