السرد الساذج

ثقافة 2021/01/30
...

بشير حاجم 
نعم، بلا تعجب ولا استغراب، ثمة في نماذج كثيرة للرواية العراقية سرد ساذج: بسيط غير محنك، قليل النباهة وضعيف التبصر، إذ ينعدم عند أصحابه الوعي بـ الثيمية: إقناع القارئ بالنص على دفعتين: اعتيادية ثم استثنائية، أي تصاعديا لا تنازليا، تتعلق كلتاهما، تراتبيا، لدى قارئ متأن، ليس متعجلا، بمجرى الأحداث، ضمن شبكة نص الرواية، حيث: طريقة وصفها = عقلية الرؤيا + أمانة سردها = نقلية الرؤية. (1) هنالك من الروايات الواقعية البحتة، كما الصور الفوتوغرافية التقليدية.
 ما هي ذات ثيمات مستهلكة سمجة. ليست من أية مشكلة معها، مبدئيا، ولا مع كتّابها المقتنعين بها، دائما، لأنهم ناقصو وعي بعلامية السرد فضلا عن شعريته. لكن المشكلة كلها، تفصيليا، تخص هفواتها الساذجة على الرغم من بساطة سردها. ما يقال هنا، الآن، يتعلق برواية أطياف سنيدح: اجعله الليلة معي، دار جلجامش ـ بغداد، 2018.
هذه، باختصار، ثيمتها: “عبير” يحبها “أحمد” زوج صديقتها “فاتن” قبل عملها سكرتيرة في بيتهما، تترك العمل عندهما لزواجها من “رزاق” الذي سيتطوع للقتال ضد داعش، تنفصل “فاتن” عن “أحمد” بعد معرفتها بحبه لـ “عبير” التي تنتظر عودة “رزاق” من الجبهة، “عبير” تلتقي بـ “أحمد” في بيته بعدما عاودت العمل مع طليقته “فاتن” في بيتها، يموت “رزاق” خلال الحرب فيتزوج “أحمد” أرملته “عبير”. هكذا أرادت الكاتبة، إذاً، أن تَميت “رزاق”، في حرب داعش، كي تزوِّج (أحمد ـ عبير).. ثم ((عاشا عيشة سعيدة))! لكن مرادها هذا، مع كونه سردا بسيطا، بدا ذا هفوة ساذجة. إذ ليس فيه تواصل هاتفي بين “عبير” و “رزاق” طيلة تواجده في جبهة القتال قبل موته. يمكن إجمال ذلك، الذي استغرق: ثلاثة مقاطع = ثمانين صفحة، بهذين المثالين المتقاربين: * لقد أخبروني بأن رزاق سيأتي/ ص79 ((“أخبروني...” لا (أخبرني رزاق بأنه سيأتي)؟!)). * الضجيج ملأ حياتي حين تأخر رزاق، ولم أسمع شيئا أطمئن منه حتى وأنا أسأل “المختار” عن سبب تأخره.../ ص82 ((تسأل “المختار” لا زوجها؟!)). كأن أطياف سنيدح، هنا، قد استحضرت ما بعد أيلول 1980، خصوصا، وهي تتحدث عمّا بعد حزيران 2014، حصرا، فكان في روايتها هذه سردٌ ساذجٌ. (2) هل يجوز للروائي، كل روائي، أن يكتب تمهيدا لمتن روايته؟ نعم يجوز، وإن بتحفظ، لكن بشرط ملزِم: على “التمهيد”، هنا، أن يبدو رؤية اشتغالية بنيوية، فقط، لا يغدو رأيا انشغاليا ثيميّاً. أي أن عليه، إذا كان صاحبه ذا وعي، أن يعرض تجربة تقنية مع قارئ استثنائي، فاعل ذكي، وألّا يفرض سيرة حدّوتية على قارئ اعتيادي، خامل غبي، حيث المسرود له مسرود: معه ليس عليه. هنالك روائيون، لأنهم ليسوا روائيين!، يجهلون هذا الشرط الملزِم، لتمهيد المتن الروائي، فتقع رواياتهم في فخ السذاجة، مطلقيا لا نسبيا، كرواية ليلى العيفاري: الظل الأحمر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت، 2016. 
 لقد قالت الكاتبة في الـ “تمهيد”، ص7، إن (الفترة المعنية بهذه الرواية هي ما بعد الرحيل الرسمي للقوات الأميركية من العراق وظهور الإرهاب وقبل انتشار تنظيم داعش الإرهاب! (ما الذي أبقته إذاً للقارئ الاستثنائي، الفاعل الذكي، بعدما انكشف أمامه المسرود (الحدث، الشخصية، الزمن، المكان)؟ لذلك ثمة سذاجة لغةٍ منطقية نحويّاً، منذ فقرة استهلال المقطع (1)، هكذا: (قد تكون الشفاه الممتلئة والأنف المنحوت “عاديَّا” الجمال، ص9). ثم سذاجة حوارٍ ديالوغي وظيفيّاً، منذ بدايات المقطع (2)، هكذا: (يسلّم زوجته كيساً فيه مواد غذائية ويؤدي التحية “السلام عليكم”، ترد رباب “وعليكم السلام”، الله يساعدك. ترفع زينب رأسها وتؤدي التحية بصوت ضعيف “وعليكم السلام”. ص12). بعدها سذاجة ساردٍ خارجي موقفيّاً، منذ الفقرة الثانية للمقطع (3)، هكذا: (في ذلك الحين كان الناس يعيشون حرباً “ضد” إيران ص16) ما هو المتوقع بعد ذلك كلّه، حتى الآن: ص16، من رواية كهذه، ذات 440 صفحة، سوى سردٍ ساذجٍ؟! (3)  لطالما قيل، مرارا و تكرارا، إنّ على كلّ روائي، مهما صار محترفا، أن يعرض أيّةَ روايةٍ له مخطوطةً، قبل إصدارها، على مراجع متخصص: تاريخي، ديني، سياسي، طبي، فلسفي، إلخ...، ذي خبرة ودقة ودراية ونزاهة (في القراءة). الهدف من هذا القول، الذي يُصَرُّ عليه، أن يتلافى الروائي هنات، وإنْ صغرتْ، قد تطيح بروايته: متنها الثيمي فضلاً عن مبناها التقني. 
لكنْ هنالك روائيون، كثيرون؟، يرفضون قولاً كهذا، رفضاً باتّاً، بحجّة ألّا وصاية على رواياتهم!!!، والنتيجة: تشوهات خطيرة في متونها الثيميّة مع مبانيها التقنية. من هذه الروايات، ذات التشوهات الخطيرة، رواية أحمد ناصر الفيلي: غرباء، دار الجواهري ـ بغداد / دار العودة ـ بيروت، 2017 . هنا سيُعرَف للمرة الأولى، بعد قرابة 1440 عاما، أنّ خلال ظهيرة الجمعة في المسجد، عند المسلمين، الصلاة تسبق الخطبة!: تذكرت بأن اليوم هو يوم الجمعة وأنا معتاد على حضور صلاة الجماعة وكنت أتمنى أن لا يلاحظ أحد قلقي وشرودي، “...”حاولت أن أنهي صلاتي بأسرع وقت “...”، لذا لجأت إلى آخر الصف قبل الصف الأخير للنساء، كي أهرب مع نهاية الصلاة ولم أكن في حالة تسعفني وتساعدني على البقاء والاستماع إلى خطبة الإمام، ص23.  كأن الكاتب، هنا، قد اشتبه بصبيحة العيد، حيث تسبق الصلاةُ الخطبةَ، وهذا الاشتباه، إذا ثبت، هو أبسط تشوّه خطير في روايته، منذ بداياتها، صيّرها سرداً ساذجاً.
 (4) إذا أُريدَتْ لروايةٍ تحديثيّةٌ، = شعرية + علامية، يُلزَمُ كاتبها بالاشتغال فيها على: بنية، تقنية، ثيمية، جمالية. في ما يتعلّق بالجمالية، الأخيرة، تُعدُّ إكماليّة للبنية ثم للتقنية في (الرواية). أنّى تكون لها بنيةٌ متينة فتقنيةٌ مُجيدة وثيميةٌ مُقْنعة، بالضرورة، ستكون فيها جمالية إمتاعية: لغوية “لفظية” + أسلوبية “تركيبية”. هنالك روائيون، جُلّهم هواة؟!، ليسوا واعين بهذه الكينونة، أبداً، لذلك، حتماً، فإنهم يفشلون: لغويا “لفظيا” + أسلوبيا “تركيبيا”، معاً، في رواياتهم، مهما تعبوا لأجلها، مثل رواية نسرين أبو قلام: معي تكونين أحلى، دار ميزوبوتاميا ـ بغداد، 2016. منذ بدايات مقطعها الأول، بيت العائلة ص11، ثمة قبْحٌ: استدارت الأم نحو المطبخ وهي تتمتم بكلمات مع نفسها، معلنة عن استيائها بكلمات لا يسمعها سواها. ص13 ((“بكلمات مع نفسها” ثم “بكلمات لا يسمعها سواها”؟!)). كذلك القبح ذاته، بعْد سطرين فقط، سوف يُصَرُّ عليه: استدارت مينة نحو غرفتها، متمتمة بكلمات مع نفسها، معلنة استياءها بكلمات لا يسمعها سواها. ثمّ يُتَمادى به، بالقبح نفسه، هكذا: دون أن يحرك أخاها – كذا – سامر ساكنا، عدا كلمات تمتم بها مع نفسه، معلنا استياءه، دون أن تصل كلماته لأبعد من فمه ص14.  إنّ قبحاً كهذا، سببه الفشل المزدوج: اللغوي “اللفظي” + الأسلوبي “التركيبي”، إذ ظهر مبكّرا في هذه الرواية، منذ بداياتها، قد وصمها كلّها، حتى نهاياتها، بسرد ساذج. (5) يحقُّ لأيّ روائي، من حيث “الثيمة” فقط الآن، أن يصير مؤرِّخاً في كل رواية له! لكنّ صيرورةً كهذه، مهما تجلّى حقّها، تظلُّ مشروطة بأنه مؤرِّخ مجازي غير حقيقي: جمالي لا قبحي. هذا يتطلّب منه قبالة أية متوالية حياتية، سواء كانت ماضية أم حاضرة، أن يدرك بونا شاسعا ـ هائلا ـ ما بين تأريخين لها متناقضين : أحدهما/ عمقي ـ باطني، إيجابي، يُخضع التاريخ للرواية = نصّاً: كاتبا + قارئا + ساردا. آخرهما/ سطحي ـ ظاهري، سلبي، يُخضع الرواية للتاريخ = واقعة: حاكمة + محكومة + معارضة.  خذوا، مثلا، هذه المتوالية الحياتية: الانتفاضة الشعبية في العراق عام 1991..  ثمة روائيون، كثيرون؟، لم يُخضعوا تاريخها لرواياتهم، لا، بل أخضعوا رواياتهم لتاريخها!  كيف؟ بتقريرية حقيقية: سطحية ـ ظاهرية، سلبية، على لسان السارد الخارجي الكلّي، الأوحد الأعلم، كما هو في رواية سعد العبيدي: تلك هي، وزارة الثقافة ـ بغداد، 2013. 
هكذا: انتصف الشهر الثالث، أربعة عشر محافظة “كذا” جنوبية وشمالية، أصبحت مراكزها خارج سيطرة الدولة، مبعوثون سريون للرئيس يتوجهون إلى دول عربية وإسلامية عن طريق العاصمة الأردنية عمان، ومنها ينطلقون إلى عواصمها المحددة حصرا من قبل الرئيس، رسائله التي بحوزتهم تحوي إشارات إيحاء عن مستقبل مجهول للمنطقة والعراق إذا ما سيطرت إيران على البلاد. / ص199.  هذا الـ “لسان”، بالتقريرية الحقيقية هذه، ليس لسارد أحداث روائية، أبداً، بل لمذيع أخبار سياسية، مثلاً، لذلك ثمة للرواية هذي سردٌ
 ساذج.