شعريّة الحياة

ثقافة 2021/01/31
...

د. جاسم حسين الخالدي 
يمثل الشاعر جبار الكواز، خطًا مميزًا في الشعريّة العراقيّة منذ مجموعته الأولى حتى أعماله الشعريّة الأخيرة التي تصاعد فيها منسوب الشعريّة إلى حدٍّ كبير، فقد ذهب إلى المناطق الشعرية التي اتجهت إليها قصيدة ما بعد الحداثة، من أمثال القصيدة اليومية التي تتشكل من جزيئيات الحياة وتفاصيلها الدقيقة، ومن ثم تلمُّ مخيلة الشاعر شتاتها وتخرجها في صور مكتظة الشعرية. 
وهو ما يمكن تلمسه في ديوانه (أحزان صائغ الطين)، إذ تتحول القصيدة إلى جزئياتٍ، وصولًا إلى الكليات، ليس على صعيد الصورة فحسب، بل تجد ذلك في الموضوع، إذ تتزحزح مساحته لصالح تلك الجزئيات التي يمكن لمّ شتاتها لترقىلمصاف الموضوع، وأكثر ما نلمس ذلك في النصوص التي تركز على رصد الحياة اليومية، وما فيها من أشياء، تكونها التشعبات الكثير، والتفاصيل المعتادة.                                                        
 ففي قصيدة "ظلال" رصد الشاعر حكاية الظل، وعلاقته بالإنسان نفسه، فالظلُّ دليلُ وجودِه، وحركتِه، فإذا ما اختفى، أو تلاشى، فهو دليل اختفاء صاحبه وغيابه. لقد عالج الكواز الظل، بوصفه بؤرة مولدة أو ثيمة رحميّة، بدلالات لا تخلو من البعدين الفلسفي والانساني، فهو يخاطبه كبشر سويّ، يسمع ويرى ويتكلم، ولعل هيمنة الضميرين المتكلم والمخاطب على خطابه الشعري جعلت القصيدة كلَّها خطابًا بين الشاعر وظلِّهِ، ولذلك كانت الجزئيات مقدماتٍ للوصول إلى الكليات.
لقد تماهى الشاعر مع ظله، إذ ابتدأ بتوجيه الخطاب له بسؤال افتراضي لا يطمح بالإجابة عنه: (كيف تقاوم وقع الأقدام عليك؟).. ثم يذهب الكواز إلى أناه في جزئيّة ثانية، ليفصح عن موقفه بأزاء هذا الموضوع، أو يبيّن مكانه من الأحداث، وقد توزعت رؤيته بين داخل المشهد وخارجه.
وتتوالى الأسئلة الشعريّة، في انسيابية واضحة، يحمل كل سؤال جزئية ما وصولًا إلى الصورة الكلية التي انتظمت القصيدة، فخطاب الظل، كيف يواجه تحولات الزمن، أو كيف يمارس حياته اليوميّة، ولعل من المفارقة أن الكواز يفترض أجوبة لتلك الأسئلة، وهو خلاف أسئلة الشعر التي لا تبتغي الإجابة.
ويمكن رصد ذلك في مجموعته الأخرى، ورقة الحلة التي حاول فيها أن يؤرخ لمدينته (الحلة) أمكنة وشخصيات، لاسيّما تلك التي تحمل انساقًا اجتماعيّة وثقافيّة، ورمزيّة، من ذلك الورقة التي خصصها لـ "ساعة البلديّة"، كونها تمثل إحياء لذكرى ساعة نائمة منذ ثلاثين عاماًحتى غدت جزءًا من الذاكرة الشعبيّة، والحليين جميعًا، وقد التقط صورًا جزئيةً في يوميات المدينة: أمكنة وشخصياتٍ.                        
لقد جعلَ الشاعر كلّ مقطعٍ من القصيدة، أو كلّ ورقة من أوراقها، صورة جزئيّة،وبمجموع صور تصور حياة المدينة وشخوصها تتكون الصورة الكلية لمدينة الحلة عبر أزمنة انغرست في الذاكرة الحليّة.                                           
لقد أرّخ الكوّاز لحياة المسحوقين والمهمشين مثلما أرّخ لحيوات لامعةٍ أخرى أسهمت في اغناء الذاكرة، فقد أعاد الحياة لـ (نجم البلّام)، ،(جواد البلام) و (سلمان المصور)، و( كمال المصوّر) و(عباس الوحش)، و(يحيى عبد الرزاق).               
ومثلما أعاد الحياة إلى أسواق المدينة، ومدارسها، ومقاهيها، وسينماتها، وجسورها،  فكانت القصيدة مكانًا لاحتواء هذه الحيوات، وما تحمل من حمولاتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ ومعرفيةٍ، شادت جسد مدينــــة الحلة فـــي العصـــر الحديث.