أشواق النعيمي
تعد محاكمة المدن من أكثر السرديات انتشارا في أدب ما بعد الحداثة بوصفها تصويرا للواقع من وجهة نظر نقدية تسلط الضوء على مواضع القبح والقفر والفوضى وكل ما يشوه الهوية الحضارية المرادفة لمفهوم المدينة. وقد نالت بغداد زمن الاحتلال النصيب الأكبر في الرواية العراقية باستحضار صور الحرب بأبعادها وتداعياتها وانعكاساتها على مجتمع المدينة.
ففي رواية "حارس التبغ" يرصد علي بدر في بيوغرافيا صغيرة بعض الوقائع المتسلسلة زمنيا بوصفها محطات فارقة في تاريخ بغداد الحديث تضمنت الانقلابات العسكرية والتصفيات الحزبية ومجزرة قصر الرحاب وزمن الحصار، انتهاء بعام 2003 تاريخ التحول السياسي الذي تفنن في وصفه الرواة وتكلف في تأثيث فضائه الرمادي مؤلفون من شتى بقاع الأرض.
بغداد بعدسة الرواية مدينة قذرة ممحوة المعالم بسبب الحرب، مات نهرها وذبلت أزهارها واختنقت حدائقها تحت سرفات الدبابات، واستوطن الخراب والدخان أجواءها وتسطح الخوف والموت فوق أرصفتها وشوارعها.
مدينة مستباحة سحق الاحتلال كرامة أبنائها وهشم عمق
ذواتهم.
شبه السارد البغداديين بشخصية حارس القطيع المنبوذة خارج الصراع وهي الشخصية الروائية الأولى من ثلاث شخصيات استعارها المؤلف من ديوان "دكان التبغ" لفرناندو بيسوا، في مقابل صراع القوى الذي شبه طرفيه بشخصيتي ألفارو كيرو وريكاردوس
رييس.
تسترجع الرواية تاريخ اليهود في بغداد وأحداث تهجيرهم وإسقاط الجنسية عنهم وسرقة ومصادرة أملاكهم. لم تتمكن حاضرة بغداد من احتواء تنوعها وحماية أقلياتها الآمنة. يروي السارد في مقاطع وصفية قاسية تفاصيل عمليات السلب والحرق والقتل الذي طال الأحياء اليهودية في
بغداد.
وفي روايته "عازف الغيوم" تتراءى بغداد مدينة متزمتة عصية على التغيير، العلاقات العامة فيها مؤسسة على مبدأ سيادة القوة. تعيش ازدواجية ثقافية أنتجت فجوة اجتماعية خطيرة، مدينة تزدرد الفن وتحرم الموسيقى ولا تتقن غير لغة المال والسلاح، دوغماتية ترفض الآخر المختلف حد التهميش والإهانة والاستضعاف إنها بحق المدينة الطاردة التي اتخذها البطل مبررا للهرب باتجاه أوروبا بحثا عن المدينة الفاضلة أو المكان الآخر أو الحياة الكائنة ما وراء البحار بتوصيف
السارد.
لا يختلف موقف بغداد من الموسيقى في رواية "شوبان الصدرية" عنه في رواية "عازف الغيوم". تكفير كل من يتعامل مع الموسيقى نسق خطابي يحدد درجة التقهقر الحضاري
لمدينة ما.
في "شوبان الصدرية" للروائي حسن فالح، بغداد أصغر من أن تتسع لآلة بيانو. لا مكان فيها للموسيقى ولا للأحلام. مدينة متعبة أنهكتها الحروب واستولى عليها الحزن فاندثرت ملامحها وتهاوت فيها المعالم العمرانية التي تمنح المدن هويتها فأصيبت بالقسوة وفرضت على سكانها قانون الغلبة.
يقابل حفل استعراض مساوئ بغداد زمن الاحتلال، استذكار تاريخ مشرق مازالت آثاره ماثلة، وجماليات مستترة خلف أقنعة الخراب.
بغداد لا تريد للموسيقى أن تتوقف، لأنها لو توقفت ستموت بسبب الرصاص الذي يملأ جسدها.
وفي رواية "اللحية الأميركية معزوفة سقوط بغداد"للروائي عبد الكريم العبيدي بغداد عبارة عن ترسانة عتاد ومسرح كبير لاستعراض المشاهد الدموية ومهارات التفخيخ بالسيارات والعبوات والأحزمة الناسفة..
إنها المدينة المذنبة بترويع سكانها، المتهمة بالخطف والاغتيال والتهجير الطائفي والمسؤولة عن الجثث اليومية مجهولة الهوية، المدينة الخائنة لانخراطها في تقويم اللحية الأميركية ومن قبلها في التقويم المغولي في مقاربة تاريخية حملتها إثم السماح لمعزوفة الحرب بكل جبروتها أن تجتاحها أرضا
وسماء.
"كانت بغداد كعادتها غارقة في الظلام. ظلام بارد.. كثيف.
ظلام لزج يلتصق بكل شيء، ويتغلغل في كل شيء. ظلام بدائي. ظلام موحش مثل ظلمة القبر.
ظلمة العماء والتكوين الأول"، بهذا المقطع السوداوي استهل برهان الشاوي روايته "متاهة قابيل" مستعيرا ليل بغداد الداكن لوصف واقعها بعد
الاحتلال.
وظلام بغداد لا يشبه أي ظلام. فهو بدائي، عدائي ملتصق ومتداخل
وقاتل أعمى.
الظلام ثيمة أرخت بظلالها فوق سماء الحكاية ووسمت عناوين فصولها، متاهة سلبت حياة المدينة ملامحها الأصيلة، حتى الفجر أول إشارات الضوء كان حالك السواد وبغداد أسيرة ليلها الطويل صارت إحدى طبقات
الجحيم.
أما عبد الزهرة علي فينتقد في روايته "مصل الجمال أولاد كلب" ظاهرة ترييف بغداد بسبب الهجرات المتتالية من الريف إلى المدينة والتي بلغت أوجها بعد عام 2003، بكل ما تحمله تلك الظاهرة من تراكمات اجتماعية أدت إلى تغيير واضح في هوية المدينة، فيستعرض بأسلوب وصفي تجليات القبح والقذارة في عشوائيات تعيش تحت خط الفقر انتشرت في مناطق واسعة.
مكبات نفايات يعتاش عليها المعدمون، وشوارع تغرق بالمياه الآسنة، شحاذون وتجار ممنوعات وفئات بشرية مختلفة تقطن العالم السفلي للعاصمة.
بغداد وفق منظور الرواية خرجت عن كونها مدينة وتحولت إلى قرية فوضوية كبيرة.