باسم عبد الحميد حمودي
الفصل الأخير من رواية علي حسن الفواز(مسرات سود) خاص بالمجني عليه وعمود الرواية المثقف حسان المعروف الذي يتعرض الى انواع التعذيب في سجنه الذي اختارته له السلطة. الفصول السابقة للمؤلف تكاد لاتوضح دوره الكامل في التبويب وجريان الاحداث، ويسبق كل الفصول تقديم وضعه الروائي تحت عنوان (أوهام) يرتبط ارتباطا بنيويا بالفصل الأخير، ففيه لغة البطل وتعليله دخول المعتقل واشراف السجان (مهاوي) على تعذيبه بسبب امتلاكه اليد الثالثة التي لا يمتلكها السجان.
اليد الثالثة لدى حسان تشكل خرقا أمنيا داخل بيت السجان الذي ما استطاع الاكتفاء ولم يصل الى نشوة الانجاز في زواجه من مباهج رفيقته التي عمدت الى تعييره وتعذيبه وإهانته لضعفه.
هذا الضعف الذي صاحب السجان حوله الى طاغية لاتقف امامها عوائق، إذهو مطلق العمل في شأن سجينه (حسان) الذي يمتلك آلة إنجاب شديدة القوة كانت –ربما – سببا في وضعه في السجن، وهي هنا تعد السبب الرئيس للعذاب اليومي الذي يعانيه من سجانه (مهاوي) الذي يعاني من فقدان القدرة الإنجابية، لذا تجده في موقف الضائع ازاء قدرات زوجته التي تضطهده جنسيا بسبب ضعفه.
هذا الضعف الذي يعانيه مهاوي في بيت الزوجية يحوله الى طاغية شديد القسوة أزاء السجين (حسان عاكف) الذي يمتلك ما افتقده مهاوي.
تبدو العلاقة متشنجة بين مهاوي وسجينه حسان الذي يحصل على الكثير الكثيرمن جلسات التعذيب التي تتركز حول آلة القوة –الإنجاب – القدرة الجنسية التي يمتلكها حسان، وهي (اليد الثالثة) التي بدت معطلة القدرة الا في استفزاز النزعة الكلبية لدى (مهاوي) الذي يتفنن في تعذيبها وايذائها حتى وصل به الامر الى استخدام مطرقة لضرب الكتلة اللحمية التي تتكون منها اليد الثالثة، فيقع حسان مغشيا عليه اقرب الى الموت، بعد هرس يده الثالثة.
لا مسرات في رواية علي الفواز، لا حفلات ولامباهج. بل علاقات عقلية مأزومة عمومابين الشخوص وما حولهم من اشياء وبشر.
((الاشياء شحبت أمامه.. وصارت بعيدة، والشغف الغريب الذي كان يؤجج فيه مشاعر واخزة، صار إحساسا خادعا)) ثم:(سيرة الفقدان ولعبة السجان (مهاوي) جعلته لا يصدق ماجرى، إذ لم يكن يتخيل أن لعبة الكلام في (السياسة) ستتحول الى سبب لإخصائه) ص19.
كان السجان مهاوي من نسل امراة عرفت الرقص والعهر زمنا في ملهى (الصفا) لتنصرف بعد هذا الى حياة هادئة انجبت خلالها هذا المأزوم جنسيا الذي وقع في براثن شابة تحسن التعامل ايروسيا لكنها تقع هي الاخرى في احضان رجل فاقد القدرة (مهاوي) الذي يحول صورة الفقدان الى ممارسة سادية قاسية أزاء ما يحويه جسد حسان من قدرة تتمثل في اليد الثالثة التي يعذبها دوما وصولا الى سحقها
بالمطرقة.
خلال فصول المسرات السود يبدو حديث حسان عن ثقافته وادمانه قراءة روايات الجنس المتمثلة في روايات (الوشم) لعبد الرحمن الربيعي و(ضجة في الزقاق) لغانم الدباغ، وحواره بشأن كتب الجنس عن العرب العاربة مثل كتب ابن الجوزي وكتاب رجوع الشيخ وسواه، ثم حديثه عن بصاصي روايات الغيطاني جمال الذين نقلوه الى سجن مهاوي بسبب جلسات ثرثرة عادية بين مثقفين نقلوه بها الى زنزانة مهاوي.
الرواية تدور في مجموعة من الفصول تبدو فيها الشخصيات الاخرى اطارية أزاء شخصيتي حسان –مهاوي، اذ تؤدي كل شخصية دورها في تحريك الدورة السردية لدفع حسان –مهاوي الى المسرح.
جد مهاوي الذي رحل من قريته في الجنوب هربا من الاقطاع ليبني بيتا له في (الشاكرية) ببغداد الخمسينات ووالده (حاني) الذي تعايش في ملهى الصفا ليختلط بالزعيم الابيض وقبله بشخصيات من الاشقياء وصولا الى الغانيةالتي اضحت زوجته، وبقية تفاصيل تلك العلاقات الغرائبية بين الجنس والسياسة وتوالي الانقلابات، صنعت من (مهاوي) نجما سلطويا ثم اودت بقوته وهيمنته على السجون نتيجة انقلاب اخر انهى سطوة الزعيم الابيض وسطوته هو.
وضعوا (مهاوي) في السجن بتهمة الخيانة، وهي تهمة يستخدمها هو مع الاخرين، ليخرج (حسان) من السجن متنعما بحياته من جديد بعد ان اسقطت عنه كل التهم التي لم يرتكب منها شيئا في الحقيقة، لكن حرية حسان ظلت حرية مأزومة، ناقصة، باهتة، لا تعني شيئا.. اذ فقد رضا النفس وفقد قدرته الجنسية التي تحطمت بفعل دورات التعذيب السابقة. يقول الفواز في النهاية عن بطله حسان:
(هو يشعر أنه خارج اللعبة وأنه قريب من الحافات، حافات تشبه المتاهة، إذ تغيب الحدود ويحضر الغموض الذي تتشابه به كل سلطات العالم وسجونه، حيث الخوف وحيث الرقابة وحيث العيون التي تتلصص ليل نهار، حتى باتت فكرة الخلاص التي كان يبحث عنها أشبه بالسراب) ص158، وهو بذلك يضع القارئ في سوداوية منطقية تعكس السيرورة العامة للحياة اللامنطقية للمثقف في كل العوالم، وليس العالم الثالث وحده هو المشمول بهذه التجربة.
لم يقل الفواز عن اي العوالم يمكن ان تشمل بهذه التجربة التي خاضها حسان وجعلته يخرج في النهاية الى وسط الشارع.. مجنونا فاقدا لذاكرته التي أعطبها العذاب.
هل كان باحثا عن الحرية؟ ام أن هذا المصير نتيجة منطقية لمن يغرد خارج السرب المرسوم دربه وفضاؤه؟، سؤال يجيب عنه القارئ بعد قراءة هذه الرواية التي تستحق التقدير والاهتمام
والدرس.