من أبرز صفات اللغة الدينية أنها لغة (حتميّة)، وإخبارية عن (الحقيقة) وليس شرطًا تناسقها مع المعيار المنطقي أو العقلي.. وسرعان ما تتحول إلى لغة خطابية تحقق التأثير والهيمنة، لأنها لغة منطلقة ومبنية على (الإيمان).
ولقوة تأثيرها فقد تسربت أنساقها إلى مجالات أخرى منها اللغة النقدية الأدبية: هل ثمة رائحة دينية في أسلوبه وأحكامه؟!
وهل تتضوّع في النقد القديم وحده أم أنها تسربت إلى الحديث
أيضًا؟
فمجرد أن تضغط على زر السؤال: مَن روّاد الشعر العراقي الحديث؟
سيخبرك العقل الحتمي: السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري.
ومنْ شاعر العرب (الأكبر!): الجواهري.
من أمير الشعراء؟:
أحمد شوقي.
وهو الأسلوب النقدي العربي القديم نفسه: من أمير الشعراء؟:
أمرؤ القيس.
من قال أهجا بيت؟
جرير.
وليس الناقد وحده من أطلق تلك الأحكام بل (المقدس) الذي لا ينطق سوى (الحقيقة) هو من أخبرهم.
فمن يخبر عن (الغيب) بحقيقة كلية هو نفسه من يخبرك عن الشعر بحقيقة مطلقة.
رغم أنه ما من لغة تحتمل التأويل وتنتعش بالمجاز وتراوغ الحقيقة كاللغة
الشعرية!
إن هذه النسق الديني الحتمي المتسرب إلى اللغة النقدية لا يعني المنتج وحده، بل المتلقي هو جزء من صناعة الظاهرة، فسكونيته وعدم المغامرة في الالتفات إلى ظهر جدار الكهف فاعل في تجلي الحتمية والسمع والطاعة لمقولات آباء النقد وشيوخه فإيَّاك إيَّاك أن ترفض لقب (الأكبر) عن الجواهري وإيَّاك أن تهزأ بظاهرة (الأجيال الشعرية العشرية).
وقد تتغير الآراء لكن - أحيانًا - مع تغير الموقف (الإيديولوجي) وليس لتطور (الموقف المعرفي)، فما تمنحه (السلطة) من قرابة لشاعرية وارتفاع مرتبتها!، قد تغيب مع غياب الآليات الحتمية وتحول الأدوار وانتقال الخلافة. وأمر هو كذلك قد يضعف من الجدلية الحوارية القائمة على التعددية والتغاير على وفق ثنائية (الذات/ الآخر) بتفاعل إيجابي يقوم على المراجعة والتفكير والتغيير فيتحول الصراع التزامني إلى صِدَام تعاقبي يُلغي الآخر لأنه أمسى هامشًا محرّمًا عبر إخبارية اللغة النقدية الدينية الحتمية، ومن هنا فإن النقد الديني يخبرك (حقيقة المعنى) بخلاف النقد المعرفي الذي يمنحك (تأويل
المعنى).