العوالم المتوازية في رواية {العائدون من الغياب}

ثقافة 2021/02/03
...

دعد ديب 
 
تشكل العتبات النصية بوابة التشويق الأولى في كل عمل أدبي، أو مصيدة جذب القارئ إذا جاز التعبير، وما تتضمنه من العنونة وصورة الغلاف والإهداء والتوطئة والمتشابهات بهذا الشأن، هذا التشويق الذي قادنا إليه السوري طلال مرتضى منذ عنوان روايته “العائدون من الغياب” الصادرة عن مؤسسة الرحاب لعام 2020، العنوان الذي يثير السؤال والتساؤل عمن يكون هؤلاء العائدون وأي غياب يقصد، مما يجعله يمسك بتلابيب المتلقي منذ البداية، على الرغم مما استقر بالذاكرة من عناوين شبيهة ذات شهرة على غرار “في حضرة الغياب” ومزن الغياب ومرايا الغياب، إذ لمفردة الغياب وقع ذو رنين مما يفتح للتأويل بابا واسعة رغم تكرار استخدامها في أكثر من عمل أو منجز ثقافي.
 لا ينتظر القارئ طويلًا حتى يعرف من هم أولئك العائدون من الغياب، إذ يستعير مرتضى أبطاله من شخصيات سبع روايات ذائعة الصيت (ميرسوغريب البيركامي وكوزيديمو فيكتور هيجو في أحدب نوتردام ومس ماربل أجاثا كريستي وبيرت ابنة مدام بوفاري وسعيد مهران بطل الص والكلاب نجيب محفوظ وغرونوي باتريك زوسكيند صاحب العطر وطانيوس أمين معلوف في صخرة طانيوس)، ينسج من خلالهم عمارته السردية في مدينة الكتب وليزجهم في بوتقة الأحداث من خلال الاستفادة من فنتازيا تداخل العوالم السردية، إذ يتم انتقال جيني لوعي امرأة من عالم مدينة الكتب أو الغياب لكيان امرأة أخرى من واقعنا الحالي في أحد المشافي المحاطة بسرية وتكتم أجهزة استخباراتية عالية المستوى، فنزيلة أحد الأقسام البالغة الأهمية “القسم ب” تعاني من موت سريري وتزامن الأمر بقدوم امرأة أطلق عليها اسم الفضائية أو الكائنة الآتية من حضارة أخرى، بحالة شبه وفاة، وجيء بها إلى هذا القسم بعيدًا عن عيون الفضوليين “المنظمات الدولية”.
 هذه اللعبة السردية ينسجها ببراعة طلال مرتضى من خلال فكرة حلول ذاكرة لكائن في كائن آخر مما يغازل وعيًا جمعيًا لفكرة تناسخ الأرواح التي يعتقد بها أصحاب بعض الديانات في الشرق الأدنى، واستثماره روائيًا مما يخلق صلة بين عالمين يقودنا إليه ببؤرة مركزية هي البحث عن قتلة حكيم مدينة الكتب وخطف حفيدته، الحفيدة التي أتت لتكون صلة الوصل بين العالمين لتكون شخصيتين في واحدة، حسناء ودلجين في آن واحد، حسناء التي قتلوا جدها في ليلة الحريق الشهيرة التي اجتمع فيها الغرباء وأحرقوا مدينة الكتب كما سرقوا بعضًا من كتبها، وقتلوا حكيمها، كما أظهرته هلوسات المرأة القادمة من حضارة أخرى وفق ما اصطلح على تسميته، ليصبح البحث عن القتلة حامل السرد في العمل ويكاد يشبه قصة موت معلن لغابرييل غارسيا ماركيز حيث الكل يعلم بالجريمة والقاتل وكل الملابسات، أي قتل بمعرفة الجميع، ليعيد مسرحة الأحداث وفق حكايات أبطاله المستلة من الروايات الشهيرة إذ تستمر “مس ماربل” بالتحقيق بملابسات الجريمة والكشف عن الفاعلين وغريب “البيركامي” مستمر بلامبالاته واعترافه بالجريمة لدواعٍ ليست بذات أهمية، أما سعيد مهران فرغم كونه طريد العدالة لكن شهامته بارزة بمحاولته إنقاذ بيرت ابنة مدام بوفاري من خاطفيها التي يتورط فيه “زوكيمودو فيكتور هيجو” وهو يبحث عن فتاته “ازميرالدا، بيرت” التي تعشق “طانيوس” وهو غافل عنها في عالم الكتب.
أما “غرونوي” فهو يعيش هوسه الدائم بالتراكيب الكيماوية ويتم استغلال موهبته من قبل شيخ الأضاليل وربما بالتعاون معه، لإنتاج فيروس خطير يضبط معه في آخر لحظة، مع النداء للهروب من انتشار هذا الفيروس الغريب الذي ركب في دار رعاية من ضاقت بهم الحياة، الدار التي قناعها الخير ومضمونها الشر الكامن في النفوس الوضيعة، ورغم كل الاحتياطات يتسرب هذا الفيروس إلى عالمنا الحالي في المشفى- القسم ب- لتعلو صيحة الإنذار بالفرار والهرب وإخلاء المكان فالفيروس يتقدم. 
طلال مرتضى استفاد من استعارته للشخصيات الروائية بشكل أقرب للميكانيكية إذ لم يضف أي صفة إضافية أو علامة مغايرة توحي بنمو الشخصية على نحو مختلف لما جاء في الأصل، وخاصة أنه دخل في غرائبية التنقل بين العالمين، مما يعطيه مساحة واسعة بالاجتهاد، لذا ليس مطلوبًا منه أن يكون أمينًا لصفاتها الأصلية إلى هذا الحد. 
مدينة الكتب يتنازعها تيارا الخير والشر، ومع تناقض التسميات إذ الشيخ المبارك ملك عالم الفساد والعهر والجريمة يتقنع بغلاف الطهر والتطهر وأعمال الخير من تأمين مكان إقامة وإعالة لمشردين تقطعت بهم سبل العيش الكريم، ليقوم باستغلال حاجتهم أبشع استغلال وكل ذلك تحت اسم الصلاح والفضيلة، ورغم أن الكثير من الناس تعرف الشر وأصحابه إلا أنهم يقفون في صفه لأن الكل يحتاج مظلة يحتمي بها، والقوي سيد أينما كان. 
ثمة تزاوج بالحكايا فتلك المرأة المقبلة من مدينة الكتب، إذ الكتب دلالة المعرفة والعلم، والتي سيطرت قوى الشر عليها بعد قتلها الحكيم مما قاد إلى التهديد بكارثة إنسانية على مستوى عالمي، وهذا الذي يحصل الآن بانتشار “الكورونا” على مستوى العالم، إذ يصل صاحب “نزاز” بالحكاية الفانتازيا إلى الواقع المرعب الذي تعيشه الكرة الأرضية الآن، ألا وهو انتشار الجائحة الوبائية، انتشار 
“الكورونا”.