يحتاج الانسان الى التواصل، ولا تواصل من دون توافق ذهني، او توقع لقول او انتظار لمقولة، او رغبة في البوح بما يعتري النفس من مشاعر وهواجس؛ لذا ارتأيت أن أبدأ مقالي بهذا الاقتباس لطراد الكبيسي إذ يقول: ( لقد نزل الشعر ساحة المنازلة مرتديا بدلة القتال، كما كتب البعض في معركة الفاو، لكنه - أي الشعر- لم يتخل عن "بدلته الادبية" أي لم ينسَ أنه "السلاح" المعنوي الثقافي الحضاري في معركة لها عمقها الحضاري والثقافي)، إن التأكيد على العمق الحضاري والثقافي هو نسق الايهام لترسيخ امتداد الماضي، وهو محاولة لتأصيل تحبيب العنف، ذلك العنف الذي تخلى عن معظمه الشاعر المدني الذي استقر قرب الحدائق والمدن وابتعد عن صحراوية المفردة القاسية.
إن دخول الشاعر الى المعركة ببدلته الادبية، كما يدعي المنظرون للقصيدة المقاتلة، لن يكون سهلا من دون ارتباك الاستعارات وتشويه الدلالات، واغتصاب اللغة.
ولعل من بين عسكرة اللغة واغتصابها وسلبها غاياتها النبيلة واثارها على القصيدة العراقية هو ظهور عنوانات لمجاميع شعرية تشي بالرعب وتوصد باب التفاؤل، وإلا في أي باب او أي نسق جمالي، يمكنني أن اضع ديوانا اسمه (انتظريني بثياب القتال لمحفوظ داود سلمان، دار الشؤون الثقافية، 1988.)!!
أي خراب هذا؟ أي اغتصاب للابتسامة؟ كيف للحبيبة ان تنتظر حبيبها بثياب القتال؟، ولعل من أشرس الاساءات للغة ان نسميها (لغة النار الأزلية، أشرف على إعداده ماجد السامرائي، مديرية الثقافة العامة :1973) وهو ديوان مخصص للاحتفال بتأميم النفط، وبدلا من ان يكون الاسم تفاؤليا مبشرا بالخير والفرح والمكاسب المفترضة من هذا التأميم، جاء معد الكتاب وجامع قصائد اللهيب والنار بتسمية لغة النار الأزلية ليجعلها صبغة لكل قصائد الديوان ويخرج اللغة من جمالياتها الى الحرائق والخراب.
لقد ألقى العنف الايديولوجي وعسكرة المجتمع بثقلهما على كل ما هو جمالي وابداعي، فصارت المتضادات محببة للشعراء، من مثل (الفدائي والوحش) لآمال الزهاوي عن دار العودة – بيروت، ومثله، أيضا، المشانق والسلام لعدنان الراوي، منشورات دار الآداب؛ ومما لا شك فيه أن هذا الكم الهائل من القنابل اللغوية التي تكاد تنفجر على المنصات او في صفحات الكتب، كانت توزع بانتظام بين المناهج الدراسية، ليصبح لدينا شعب لا يرغب اطفاله في أية ألعاب او دمى سوى الالعاب النارية. هكذا تمت عسكرة المجتمع بعد استتباب عسكرة اللغة بالكامل وتجنيدها سلاحا للمعركة وإخراجها من نسائم الحدائق والجمال، إذ استبدلنا الوردة بالرصاصة، ونسيم الحدائق بدخان النار.