مجد التفاصيل

ثقافة 2021/02/07
...

  ياسين طه حافظ
 
اعتدنا على إدانة الحشو، ومنه على إدانة التفاصيل. السبب هو النظر لها فضالات لا ضرورة لها ولغو يؤذي سلامة السياق ويشتته حين نريد ايضاحه وتركيزه والتأكيد عليه. لكن هذا حكم متسرّع وعليه مآخذ، فقد تضيع عنا انتباهات لما هو مهم وإشارات لما ينفع. إطلاق الأحكام واعتمادها كما هي في القراءة والنقد، ليس مما يحمد دائماً. ففي الحشو أحياناً ما يجدي وفي هوامش الكتاب ما ينفع ربما أكثر مما في المتن.
كانت هذه مقدمة للحديث عن السيرة الذاتية التي هي فن غربي، ومجتزآت شواهدنا العربية لا تغير من الحقيقة العامة، وتظل حماسات وانحيازات تعاطف أو محبة ولا تؤكد حقائق علم وكتابة.
فيما يتيسر لنا من نماذج السيرة الذاتية، كانت التوصيات بعدم التشتت والسيطرة على مسير الأحداث مما يؤكد حضور صاحب السيرة. وفي هذا، كما هو واضح، نزوع تاريخي أكثر مما هو أدبي.
وأنا أقرأ "من حياتي/ الحقيقة والشعر وهو السيرة الذاتية لـ غويته، صاحب فاوست وآلام فرنر، أجدني في خضم حياة واسعة متفرعة. هنا الكتابة مختلفة عما سبقها من كتابات مماثلة، وعلى خلاف التوصيات. فلا يقدم غويته مشاهد حياة متسلسلة ولا إضاءة أحداث، تاركاً ما حولها وما له علاقة بها. هنا سيرة ذاتية واسعة ومن نمط جديد على كتابة السيرة الذاتية، لقد رسم إبداعاً جديداً في هذا الفن وأحدث تغييراً.
هو حين يتحدث عن مشهد أو حدث في طفولته، يصف البيت والشارع القريب وقد يعرّض بتاريخ المدينة والميدان الرئيس والطقس وقد يأتي على ملابس الحضور وما يتزينون به أو ما ارتدوا ذلك اليوم من جديد ولا يفوته شكل الصالة وستائرها وأثاثها واللوحات أو الصور على الجدران وتفاصيل عمل وشخصية كل من ضيوفهم، بل وأحلامهم ومشاريعهم وطباعهم المحببة أو الكريهة ..
غويته لا يجهل مبادئ كتابة السيرة الذاتية لكنه سعى لما هو أهم من المعتاد، هو أراد جديداً يناسب مبدعاً وعالِماً مثله، فهو روائي وشاعر وعالم طبيعة ومفكر فجعل من هذا التوسع امتيازاً. كل من يريد أن يرى سيرته سيراها بتفاصيلها وبتفاصيل عالمها ومفرداته. هو قدم حياة كاملة هو فيها، ومثلما يجد الدارس ما يحتاج له في حقل دراسته أو بحثه، يعيش هو والقارئ العام حياة كانت ويتعرف على أجواء ومحتوى مكان معين وزمن. فهي سيرة حافلة، طويلة بجزئين، وتشكل انتقالة فريدة في كتابة السيرة الذاتية حتى تتيح سبباً للقول بأنها تجاوزت المصطلح، او ضاق المصطلح المعروف، أو الموروث، بها. لكن هو هذا الإبداع، وهذا هو الجديد. وتاريخ الأدب، تاريخ إضافات.
فما شاءت عبقرية غوتيه إلا أن يصور ويفرغ ذاكرته مما سمع ورأى وما استجاب له أو كرهه واشمأز منه، هو أراد أن يتصدى لمشكلة البشرية الدائمة، إلى أن لا تضيع الحياة! فجمع قواه البيانية والبصرية وثقافته وخزين ذاكرته وما قرأ واطلع عليه ليقدم مقطعاً حياتياً لنراه بحيويته وتفاصيله. قدم سيرته أو قدم حياته التي كانت وعالمه وما كان فيه. فلا عجب إن جاءت السيرة الذاتية بمجلدين أو جزئين كبيرين، ولا عجب أن تكون لنا سيرته الذاتية لا كتابة خبرية ولكن حياة نابضة وناساً ومصالح ومسرات وأفكاراً وآمالاً ومساعي - بأساليب شتى. ففي الصفحات نجد الطقس والأزياء وتمايز الأصوات والحلي ونوع وأشكال المقاعد والشعائر وأمزجة الناس وطرائق المشي والكلام والرقصات والروايات السائدة والعلاقات العاطفية ضغائن أو قصص حب. هذا المقطع التفصيلي من الحياة، شبه الكامل، هو المؤتمن على طبيعة وفحوى حياة غوتيه وهو المؤتمن على حقائق الناس والأحداث حواليه.
فحين سمّى سيرته الذاتية – من حياتي- كان دقيقا، فليست هذه كل حياته. وحين وضع لها عنواناً فرعياً: الشعر والحقيقة، إنما أراد الروح والواقع، المترجمون يعلمون ما تسببه كلمة reality من إرباك ومن تردد حين نريد لها مقابلاً حياً ودقيقاً. كلمة واقع، غير المقنعة، هي الفضلى، هي البديل الممكن ما دمنا لا نريد الحقيقة المجردة fact ...
وأرى أن هذا هو المفترض من معنى سيرة ذاتية، ان سيرة صاحبها انما تكون عبر حياته وما فيها من ناس وتفاصيل، لكي نراه حياً، ونرى حياته لحظة الكلام...