رعـد فاضل
(1)
نادراً ما كان التّنوع عندنا نحن العرب والمسلمين ثراء معرفياً يدفع إلى ممارسة الاختلاف الفكريّ والسياسي والاجتماعي والدينيّ ممارسةً ثقافية متنوّرة، وإنما كان في أغلبه ولا يزال يجرّ إلى سلسلة من الخلافات التي تصل حدّ الاحتراب، ابتداءً من الكلمة نفسها حتى التصفية الجسديّة الكاملة. تنوّعٌ تقوم مرجعيّاته على التّهميش والإقصاء والإلغاء لا على الحوار والإيمان بثقافة الآخر ووجوده، فإذا ما تهيّأت فرصةٌ تاريخيّة ما لفئة ما كانت ترزح تحت وطأة تلك المرجعيّات المفروضة من قبل فئة أخرى غالبة متسلّطةٍ، فرصةٌ تسنّمت عِبرها تلك الفئة المهمَّشةُ تقاليد سلطة ما فنراها تندفع لا بقوّة ايمانها برفض كلّ أنواع الإقصاء والتّهميش التي عاشتها وإنّما بقوّة منظومة ثأريّة كاملة تدّعي ممارسة الاختلاف المنتِج الذي كان شعارها وديدَنها قبل تسنّمها مقاليد السّلطة ظاهرياً، وتحارب باطنيّاً كلّ جديد يعمل على تأسيس ثقافة التنوّع الحرّ وتربية متلقّين جدد ترسّخ عِبرهم ذلك النّوع البنّاء من الممارسة الفكريّة والسياسيّة المنفتحة في حياتنا كلّها.
فأنْ تكون مَقصِيّاً يعني بالمقابل أن تكون ثورياً، ولن تكون ثورياً بالمعنى المتواصل للكلمة حتى تتحوّل إلى سلطة تعرف كيف تحوّل ذلك الإقصاء إلى سلطة الثقافة لا إلى ثقافة السلطة، وأنْ تكونَ سلطة حقيقية متواصلةً في ثوريّتها يجب أن تمارس اقصاءً ذاتيّاً لكلّ ما تنتمي إليه عرقيّاً ودينياً وطائفيّاً وفكرياً من جهة أنّك قد تحوّلت إلى متن لا بدّ عليه أولاً أن يرفض ثقافة تهميش الآخر التي عشتَها أنت زمنَ كنتَ خارجَ السّلطة.
الاشكاليّة تكمن في أنّ أغلبنا حتى الآن لا يفهمون معنى الاختلاف الحقيقيّ، أو لا يؤمنون به أصلاً بسببٍ من تربية وثقافة التّزمت والوصاية ذلك أنّ في كلّ منهم طاغية غاطساً لابثاً هناك في عمائقهم وما الحريّة والتّنوع والديموقراطية إلّا شعارات فارغة ليس إلّا.
وأيضاً حتى أولئك التنويريّون هم في معظمهم إذا ما تحاوروا كأنّهم عمقيّاً لا ينصتون إلى الآخر المُتنوّر الذي فيهم وإنما إلى تزمّت رؤياتهم الشخصيّة فيتحوّل حوارهم إلى نوع من التّماهي الرومانسيّ مع مرجعيّة هذا التزمّت، وكأنهم في النّهاية لا يحاورون غير أنفسهم لأنهم في الحقيقة مُستلَبون أصلاً من قبل (أَناهُمُ السّفلى) الطاغية تلك. أوّليّاً لا يمكن بعامّةٍ أن يقوم حوار حقيقيّ منتِجٌ مع الآخر ((إلّا إذا خرج كلّ من الأنا، والأنا الآخر من طبيعته المفكِّرة وجعلا نظرتَي بعضهما للبعض الآخر نظرة اِنسانية أساسُها القبول والتّفهم لأنّ اللاتعاطف قد يعلِّق التواصلَ ولكنّه لا ينفيه إذ إنّ اللا تواصل هو في حدّ ذاته صيغةٌ من صيغ التواصل)) كما فهمنا من ميرلو بونتي. من هنا ليست المذهبيّة الدينيّة المحوَّلة إلى أهداف سياسية براجماتيّة ضيّقة إلّا نوعاً من الالتصاق بالذّات المُنظِّرة والمقعِّدة لمذهب بعينه وهذا هو الانفصال عن المُتَمذهِب الآخر وعن العالم لا بل عن الدّين نفسه بوصفه أصل هذا المذهب أو ذاك، وهذا هو الانغلاق على الذّات المُتمذهِبَة بعيداً عن الآخر ومن ثمّ تآكلها.
المذهبيّة الحقيقية رؤيةٌ في أمر ما لا يمكن أن تُـقبل انسانيّاً وثقافـياً إلّا إذا تمتّعت بفلسفة معرفيّة خالصة حتى وإن كانت مختلفة جذرياً مع رؤيات أُخرَ لأنّ الهدف هو الوصول إلى الحقائق، أي أن تكون رؤيةَ اتّصالٍ وتثاقف وتواصل، لا رؤية احتكار وانفصالٍ وتزمّت واقصاء...، عندها ستتعلم كيف تمارس الحوار وتتجاوز كلّ تاريخ لها في الصراع، تتعلّم كيف تكون نقديّةً لا سجاليّةً انفصاليّة. وبعيداً عن كلّ لَـبْسٍ وبحصر المعنى: أن تكون طائفيّاً بالمعنى الدّارج عندنا يعني أن تشتمل على مشروع لرؤية متطرّفة ضيّقة فكراً وثقافة ومنطلقاً وممارسة.
(2)
يمكن تاريخيّاً عـدّ القرن الماضي في حياة العرب بخاصّةٍ والمسلمين بعامّةٍ قرناً استقلوا خلاله من السّيطرات الاستعماريّة المباشرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. من هنا ألم يكن عليهم وفقاً للحلم التاريخيّ الذي نظّروا له فكريّاً وثقافياً وسياسياً طوال قرون تلك السّيطرات أن يقيموا الدولة العربيّة- الوهم؟، مع هذا لم يكتفوا بخلاف ذلك تماماً وإنما بدأوا تاريخاً من سوريالية فريدة من نوعها في ممارسة التشظّي الجغرافيّ والتفتّت الثقافيّ تناحراً وتحارباً فيما بينهم بوصفهم سلطاتٍ وطنية لدول مستقلّة، لا بل مارسوا تشظيةً للوطنيّة نفسها لحساب ما هو دينيٌّ مرّةً، ولما هو طائفيّ مرّة، ولما هو آيديولوجيّ وسياسيّ مرّة ثالثة...، ليدشّنوا أخيراً قرناً جديداً من الاستلاب وإن كان غير مباشر، منخرطينَ هذه المرّة في نضال البحث عن التّعايش والتّلاحم فيما بينهم وكأنّهم عادوا قبائل يغزو بعضها البعض الآخر، هذا النضال الذي أصبح وفقاً للمعطيات السياسيّة والاقتصادية الدّولية المعاصرة ضرباً من المستحيل إن لم يكن هو المستحيل نفسه.
إنّ تعدّد الهويّات الوطنية لشعب بعينه لا يفهم (معرفيّاً) معنى التّعدد ما هو في الحقيقة إلّا تشظية له، مثلما أنّ تعدّد الطوائف في دين واحدٍ بعينه لا تمارس معرفياً تنوّعها هذا، هو في الحقيقة أيضاً اِضعافٌ للدّين نفسه والغاء له؛ جوهريّاً. هذان أمران لا يتعلّقان إلّا بمسألتين فكريتين هنا: الأولى استبداديّة سياسية مبعثُها نوع الهوية الوطنية لهذه الفئة السياسيّة المستبدّة أو تلك، والثانية طائفيّة لا تقوم على جوهر الدّين الذي يجمِّع ويوحّد (وفقاً للرؤية الدّينية) وإنّما تقوم على هوية الطائفة نفسها، فكأنّها هنا هي (الأصل) وما الدّين إلّا (الفرع).