من أين أتت هذه الصورة الغارقة في ظلام قريتي ونحن في بداية عام 2021، لتحتل صفحة الكتابة، وتفرض على أن أراها واضحة بعين الحاضر، كما لو أن الزمن توقف أو تعطل عن المسير، آتية من قيعان الذاكرة تحمل أتربتها معها؟ ليس هذا الاستدعاء وحده هو الذي أعاد صورة ذلك الشيخ المسن المتكئ على عصاه وهو يجلس تحت سور الطين القروي وينظر إلى بستانه؟ بل أن صورة نشرت في الصحافة الإنجليزية عن الحشود التي تعبر بين صوبي الكرخ والرصافة على جسر مود، الجسر الذي لم يستطع الزمن أن يغير اسمه بالرغم من كل الأسماء، كذلك السور الطيني المتهالك الذي كان يحتضن خطوات صبي القرية وهو يطالع دروسه. ماذا ترسم لنا هذه الصورة التي لا تزال تقدم نفسها على أنها تاريخ للأمكنة وللإنسان، في حين أنها تشكيل فوتوغرافي بكاميرا خفية عن أنفسنا عندما نجلس على طاولة الكتابة أو نفكر في شراء سلعة، كل شيء ينهار الا تلك الصبوات التي اودعناها خيالاتنا في ظلال الجدران الطينية في القرية أو التي كتبناها كلمات ناقصة؟ من يدري ما الشدو الذي يقال بعد الغروب عن الضوء والخضرة وثمار البستان، هل ثمة من يعتقد أن الزمن يدور كالناعور بحيث يمكن رؤية الأمس من خلال جريان ماء اليوم؟ أم أن مسيرة الجدار المتهالك هي مسيرة الشيخ القعيد الذي لا يرى إلا بستانه وقد تسرب إليه الخراب واضمحلت الرؤية لأبعاده فما هو هناك ليس إلا الظلام.
يحمل الشيخ جداره معه وهو يرتحل الى بلدان لم يتعرف عليها إلا من الكتب، وهناك يعيد تشكيل الجدار كما يعيد تشكيل جلسته القديمة تحته، لكنه افتقد شيئا كان يرافقه، وهو ظل عصاه التي كان يتوكأ عليها، تساءل في خفايا نفسه أين ذهب ظل العصا التي طالما جنبته الوقوع في الحفر؟ اين هي تلك العين الأرضية التي تتحسس اقدامه قبل الخطو؟ ليس من جواب، ففي بلدان الهجرة أقسى ما تفقده هو ظلك، بينما الجسد يغرق في ظلال مصنوعة من تقاطع اضواء الشوارع، أين ظلك في المدن المضيئة بحيث تمشي ومعك عشرات الظلال المتحركة فتنكر انها لجسدك، شيء ما في الذاكرة يعود وانت في غربة البلدان لتفقد ذاتك في غربتها. ذلك هو الجدار الذي تحمله في ذاكرتك صورة ورسما لشاكر حسن آل سعيد حين بَصَمَ عليه من أنه وحده الذي يبقى حاملًا للأثر.
حين بدأت أعي معنى أن يتقادم العمر بنا، احتفظت بصداقة الجدار الطيني القديم، كنت أعود إليه مرات عديدة عندما أزور قريتي وبيت والدي القديم لأجد نفسي غارقًا في اللون الأصفر لترابه؛ العلامة الدالة على الذبول والخريف، ويوم كنت أتكئ على ذلك الجدار كنت أعثر على اسمي لا بل اسماء كل الأصدقاء، فقد وسعت الثقافة القول في الذين كبروا، فالجدار الطيني الأثر الباقي للتدوين، بالرغم من عصف الرياح والأمطار والسنين، هو بقايا نفس تملكها الطين وشيّدها شاخصة فوق تراب التصق بي كمشيمة لم تنفصل.
أحيانا إذا لم أعثر على الجدار الذي كنت أسير تحت وأنا اقرأ في كتابي المدرسي، وانظر للشارع الترابي علّها تمر تلك الفتاة القروية صاحبة العينين الخضراوين، أرسم جدارًا وفتاة ملفعة بالعباءة وهي تنظر في كتابي. عندئذ أعيد تشكيل جداري من ألوان مختلطة، لا لأكتب عليه كما يفعل صاحب البعد الواحد، إنما لأتأمله، فهو صفحات من سيرة بدأت بتأليفها ولم تنتهِ
بعد.