السكينة تفكر بي

ثقافة 2021/02/08
...

  رعد فاضل
 
* أن أفكر في أن: لا أكتب؛ يعني أني بدأت أفكر بالطمأنينة، يعني أن السكينة تفكر بي، يعني أني سأتصالح وأسقط في العالم! عندما تكون الطمأنينة نفسها غبر مطمئنة إلى تأثيرها الكامل، فهذا يعني أن المختار الموجَّه إليه فعل هذا التأثير لما يتحقق بالتمام بعد، ذلك أنه لا يتمتّع بكامل راحة البال. حتى الغارق في نوم عميق ليس داخلا في هذه الراحة المرجوة إذا لم ننسَ أفعال الكوابيس والأحلام وتأثيرَهما، وكذلك الأمر مع المبنج الخاضع للتخدير العام.
يبدو أنّ هذه الراحة لا يوفّرها إلّا الموت؛ قلتُ (يبدو) لأنّ ما من أحد خضع لهذا الفعل وعاد ليتكلّم. 
أليس من شؤون الكتابة أن تصنع عالَماً ذاتيّاً للكاتب- عالماً متجاوِزاً العالَم؟ التّوقّف نهائياً عن الكتابة وإلى الأبد يعني، من جهتي في الأقلّ، أنّ المتوقِّف قد أُصيب بالسّعادة!. هذا هدف صعب المنال جدّاً إن لم يكن مستحيلاً. يمكن مواصلة البقاء ولكن بالتّحول إلى أُلْهِية أخرى كعلاقات الحبّ والصّداقة العابرة، أي ممارسة بعض الفعّاليات البعيدة عن كلّ ما من شأنه أن يكون مصدراً أو مجلبةً للكآبة. ولكن من يضمن أن لا تنحرف ولو واحدةٌ من هذه العلاقات باتّجاه الأعماق، لتتحوّل فيما بعد إلى نوع من الكتابة؟
 
* الليلة الفائتة لم أكن مطمئنّاً بل مطمئنّ جداً، ذلك أنّي غطست في نوم عميق هادئ ومريح تماماً لم تتخلّله، كما جرت العادة، منغّصاتُ الكوابيس والأحلام، واليقظاتِ بين وقت وآخر. شغّيلُ الكتابة كما شغّيل البناء والحِدادة وكلّ تلك الأعمال الشّاقّة يتطلّب راحةً ليواصل العمل بقوّة. أن أكون هادئاً مطمئنّاً يعني أنّي قد توقّفت عن الحفر في اللاشيء واللاجدوى، لم أعد معرَّضاً للكتابة.
 
*هل العُصاب هو الجسر العابرُ بالكتابة إلى الرّؤيا. وإن كان كذلك فهل يمكن للكاتب العيش دائماً في قلقِ أن يحيا عُصابيّاً على الدّوام. إن كان كذلك فراحةُ العيش آنذاكَ إذاً ما هي إلّا نَزْلٌ في منتصف الجسر. من هنا إذاً الكاتب الرائي أكثرُ من معزول وشريد وغامض، وفائضٍ على مَن يعيشُ في طَرَفَي هذا الجسر؟.                                                                    
* ((قَبضٌ لا بسط. على هذا النّحو يكون الفنّ)) يقول بلانشو. ولكن إذا ما كان الأمر كذلك فعلاً فهذا يعني نفيَ تلك المنطقة التي تتحرّك فيها القراءة؛ المنطقة المتداخلة ما بين القبض والبسط، أعني منطقة مدّ الكتابة وجَزْرها، المنطقة التي بين القارئ وبينها.
 
* لكلّ قارئ وناقد حقيقيين طريقةٌ في تناول العمل الأدبيّ، تلك الطريقة التي يسمّيها دريدا ((ستراتيجيّة المَكر)) التي لا بدّ من اعتمادها بخاصّةٍ في شعر الفكر، ذلك أنّها تتمتّع بقابليّة التّنقل ما بين الشّعر بوصفه تخيّلاً، والفكرِ بوصفه توصيفاً.
 
* تحوّلُ (الجسد) إلى (جثّة) يعني أنّه خلّف فراغاً في مكان وفضاء خاصّينِ له كان يشغلهما: البيت، السرير، المقهى، سجل الأحوال المدنية (بانتقاله إلى حقل: متوفّى). في أثناء أدائي للخدمة العسكريّة إبّان الحرب قضّيتُ فترة في قلم اِدارة السّرية، وكان من أهمّ ما تنبّهتُ إليه وقتذاك فقرة في ذروة الصّنافة تقول: ((أُستُشهِد وتنزَّل من القوّة والقِدْر))، لهذه الفقرة فضاءان: فضاءُ يشتمل على سلاح المُنزَّل، وتعطيل معاشه، وعلى المكانِ الذي كان يشغله في خندق أو خلف ساتر ما...، وكذلك يطغه (فِراش وثلاث بطّانيّات ووسادة) الذي سينتقل بدوره من مكانه الأصليّ إلى مكان يُخزّن فيه حتّى يُسلَّم إلى شاغل آخر، فيعود ثانيةً إلى جسد آخر ليشغلا معاً مكاناً وفضاءً جديدين. أمّا الفضاء الثاني فهو ما سيشغله الجسد بوصفه جثّة في: المشرحة، دكّة التغسيل، الكفن، التابوت (في حالة وجوده ذلك أنّ هنالك من لا يحبذ استخدامه فيُختصرُ بوصفه مكاناً ليحلّ محلّه مكان آخرٌ: اللحد)، القبر بوصفه مكاناً شخصيّاً محضاً ثمّ المقبرة بوصفها مكاناً عامّاً: عالَماً.
الجسد مكان قائم بحدّ ذاته، له كما أيّ بيت: واجهة، طلّةٌ، ملامح، لون، مداخل ومخارج تختلف وتتباين من جسد - بيتٍ إلى آخر، وقد تتشابه أيضاً في ذلك كلّه أو بعضه. وما كلّ تعب أو علّة تصيب عضواً منه بتلف ما إلّا وكأنّهما بالمقابل قد أصابا غرفة أو مرفقاً للبيت، فالتّجاعيد والأحافير والبثور والتّهدّلات التي ترقّش الوجه بتقادم الزمن، تحيل إلى تلك الانتفاخات والتّآكلات والخدوش والكُشطات التي تصيب واجهة البيت أو الغرف وأصباغها بالتّكلُّح، فيُعمد إلى المساحيق وعمليات التّجميل من جهة الجسد، وإلى الكشط واعادة الطّلاء بالنسبة إلى البيت، وكلتا الحالتين ترميم وصيانة. 
الجسد يُزوَّر يوميّاً ((فالقناع والوشم ومسحوق التجميل، عمليات يتمّ من خلالها قلْع الجسد من فضائه الخاصّ، وقذفُه في فضاء آخر)) كما يقول ميشيل فوكو. كما أنّ كلّ ثوب هو في الحقيقة مكان وفضاء في آنٍ للجسد يختلف عن سواه شكلاً وزيّاً ولوناً، وكذلك ما يشير إليه من بيئة اجتماعية وذوق جماليّ يمكن الاستدلال من خلالها على طبيعة الجسد الثقافيّة، فضلاً عن بعض الرموز التي تعدّ من مكمِّلات الثياب ليكتمل الزيُّ بها فمع الدّشداشة العربية لا بدّ من الغترة أو اليشماغ والعقال، ومع البدلة ربطة العنق وأحياناً القبّعة أو ما يُعرف بالسِّدارة، ولا أدلّ على هذه الرموز البيئيّة والثقافيّة من الأزياء الشعبيّة للأجساد في مختلف أنحاء العالم. كما أنّ لكلّ ثوب فضاء (من جهتي أفضّل دائماً الفضاء الشّسيع الذي تتمتّع به الأثواب الفضفاضةُ، في حالة زيادة وزني أو نقصانه على حدّ سواء). ولأنّ الثوب فضاء فله هو الآخر كما الطبيعة فصولُه الأربعة التي يفرضها على الجسد أشكالاً وألواناً وفصالات تنسجم وطبيعة مناخ كلّ فصل، لأنّ الجسد من أوّل الخاضعين لمتغيّرات المناخ، وهذا له علاقة مباشرة بالتّكيّف مع هذه
المتغيّرات.