هي شعرة تفصل بين الجهل كنقيض للعلم، من حيث هو فعل فردي أو خيار إجباري شخصي لفرد ما، اضطرته ظروفه المعيشيَّة إلى ترك العلم والدراسة، والابتعاد عن الثقافة بشكل عام، مكتفياً بالقيام بالأعمال التي تعينه على كسب رزقه وبالتالي استمراره في الحياة.. نعم هي شعرة تفصل بين هذا الجهل والتجهيل الذي هو فعلٌ تقوم به جماعات ومؤسسات ومنظمات بفرض حالة الجهل على فرد أو أفراد محددين أو على مجتمع بأكمله، لغايات تختلف باختلاف التوجه الذي تتبعه هذه الجماعة أو تلك.
ولا شك في أنَّ التجهيل فعل يقوم به من يمكن أنْ نسميهم قادة وصنّاع الرأي، كرجال السياسة والدين والإعلام والمؤسسات وسواهم ممن هم على تماس مباشر بأفراد مجتمع معين، ليصل الحال إلى الوقت الذي تصبح فيه تصريحات وخطابات أي زعيم سياسي حقائق دامغة لا تقبل الجدال والنقاش، وما تجود به قريحة رجل دين كمن يرتل بالمقدس الذي لا يحتمل النقض ولا التأويل، وما تبثه القنوات الإعلامية بأشكالها كافة وكأنها تحاكي الواقع كما هو، وتبث الحقائق لحظة بلحظة، وتلبي ما يطلبه الجمهور، وهي في الواقع لا تحاكي إلا سياسة القائمين عليها والممولين لها، بما يخدم مصالحهم ويروج لأفكارهم ومعتقداتهم.
أخطر أشكال التجهيل هو ذاك الذي تمارسه وسائل الإعلام لا سيما الفضائيات التي تناسلت وتكاثرت كأسراب الجراد في السنوات الأخيرة.. هذا التجهيل المتمثل بنشر ثقافة الابتذال والتسطيح والإسفاف والتسلية المجانية عديمة الفائدة، على حساب غياب شبة تام لأية مشاريع فنية وثقافية وإعلامية حقيقية هادفة!.
جولة سريعة تنتقل بها من محطة فضائية إلى أخرى، كافية لمنحك فرصة إحصاء مئات الفضائيات «الفنية والمنوعة» المختصة ببث الأغاني «المشوهة والفن الرخيص» في معظم الأحيان، أو تلك التي تقدم برامج ألعاب وفوازير تسخف عقل المشاهد وتستخفّ به على نحو فظيع.. وهذا بالطبع بالتزامن مع جائحة من الإعلانات التجارية التي تكون كفيلة باستمرار تلك القنوات بالبث ودعم طاقاتها الماليَّة لضخ المزيد من الابتذال والخراب!.
مقابل ذلك تتقلص أعداد القنوات الفضائيَّة العربية المهتمة بالشأن الثقافي والفني العريق بحيث لا يتجاوز عددها أصابع اليدين في أحسن الأحوال!.. والسبب؟.. انعدام وانحسار التمويل الذي تحتاجه، حيث يحجم المعلنون وأصحاب رؤوس الأموال عن الاستثمار في الثقافة بحجة أنها مشروع غير ربحي ولا يحقق لهم أية عائدات ماديَّة هي بطبيعة الحال كل ما يسعون إليه، بالنظر إلى أنّ البرامج الثقافيَّة لا تحقق نسبة مشاهدة عالية.
هذا فضلاً عن الانتشار المرعب للقنوات الفضائية الدينية الطائفية، التي تتبع كل منها جهة معينة، وتبث ما يحلو لها من خطب وتعليمات وتوجيهات ومواعظ بما فيها من تكفير وتحريض على القتل، وإلغاء للآخر المختلف عنها طائفياً، وبث أفكار ستترسخ بعقل المتابع المنتمي إليها، في تجهيل ممنهج ومدروس، لا هدف له إلا السيطرة على المجتمعات بغسل عقولها، وإبعادها عن كل ما من شأنه أنْ يؤدي بها إلى التنوير وترجيح كفة العقل، وهو ما يكفل بقاء وتمدد سلطة الذين يقتاتون على جهل الشعوب. بين الجهل والتجهيل تضيع أجيال، وربما تندثر مجتمعات، وتتلوث وتتشوه عقول!.. والسؤال هنا: إلى متى يستمر، وعن قصد، تجاهل مخاطر ما يقدم من مواد «خالية الدسم» سواء عبر الفضائيات أو في المناهج التعليميَّة أو في الإصدارات المختلفة؟... هل ننزلق إلى الهاوية ونكتفي أن نضرب كفاً بكفّ؟.. أم ما زال هنالك من أمل يُرتجى؟!.