يضع القاص حسين رشيد عنواناً لقصصه القصيرة جداً كما يسميها هو (روشيرو)، والتي يرى فيها حسب (اوغستو مونتيرو) نصوصاً تحرك مخيلة الكاتب، لأنها مختزلة بخلاف (الروايات) القابلة للإضافة، والتوسع، ولكنهما، قطعا يحتاجان إلى التجربة العميقة، والملاحظة الدقيقة، والخيال الخلاق. سبق وأن صرح (فوكنر) بأنه حين كتب (الصخب والعنف) خمس مرات، (محاولا أن أحكي القصة، أن أتخلص من الحلم، إلى أن أنجزتها).
والقصة القصيرة، أو الرواية عادة ما تنطلق من (الفكرة) أو صورة ذهنية، وكلاهما بحاجة إلى اقتطاع ساعات يومياً من العمل، الدؤوب، والشاق.
فالصورة الفنية في السرد تحققها الكلمات، وتفجر في صمتها، برقاً ورعداً وموسيقى كما يقول فوكنر، إذ يصف نفسه بالنص الآتي: (إني بطبعي متشرد، ومتسكع، ولكني أعمل كثيراً لإنجاز الرواية).
في قصص (روشيرو) التي تنبثق خيوطها الحكائية، من تلك (البقعة المكتوبة في جغرافية المتاهات.. دورانها حول نفسها عكس عقارب الساعة)
ص9.
ثم يصفها القاص، بأنها ظبية بضة.. يتبعها آلاف الملتحين، أو أنها روشيرو أميرة اغريقية وآلهة للحب والجمال، وزينتها حكايات ملوك الروم، والفرس، لكن المغول اغتصبوها.
الإحالة إلى العراق، نحتتها الحضارات، وتناولتها كتب الأديان، والسماوات.. لتصبح (خيمة مزقتها حراب ونبال وسهام، وأكاذيب وفتاوى) وتختتم بأنها تحتوي على (عويل النساء في باحات السجون ودوائر الأمن والمقابر)
ص 11.
في (تعال لأريك) يقودنا إلى قصة بعنوان (شقتان)- الشقة التي يسكنها أخذت بالتناقص، حتى خوت باستثناء فراش نومه المتهالك، وكرسي مكسور، أراد الانتحار، لكنه (نظر عبر النافذة الى تلك “العارية” الملتوية في فراشها، ثم تهاوى الكرسي). وفي قصة مخلوق تختطفه (جنية) المغارة، والشريران على شاكلة العيارين والشطار في القرون الوسطى في بغداد العصر العباسي وتنتزع روحه ومن بين أفخاذهن، وترميها في السماء فكانت نسراً، وكانت الجنية تحمل وليدها وتقول: كم يشبهك هذا المخلوق! ص 18.
في (اجهاض) تنشطر الأرض بانتظار المخلص، وهي تجهض بأبنائها غير الشرعيين ص 19. وفي (هدى) ترتب الفتاة (دكان) والدها وتفاجئ بموت صاحب العمود الصحفي، الذي عرفته من صوره وكان آخر ما كتبه هو اسمها (هدى) ص 21 .
يا ولدي يقول الأب ـــ في قصة حفلة، (بلغ أمك واخوتك السلام وقل لهم الا يأتوني في العيد) في حين يذهب شابان ضحية أهوج، يريد الافطار مع (النبي) ص 23. وحين يموت البشر في قصة (الخليقة) تضع امرأة، بيضتين بحجم كبير وتكفلت الطيور بحمل جثة الأم، والغزلان دفنها تحت شجرة التفاح) ص 25 .
تلعب الفنتازيا، بالقاص إلى اصدار قانون لتسعير الجمل والكلمات، وغسل الأرواح بدماء التاريخ، أو ذلك الشرطي الذي يشبه المجرم، فكلاهما (ملثم)، وفي لعبة الشطرنج، يبادل الملك وسكرتيره إطلاق الرصاص، لتظل القناة الحكومية وحدها، تبث، وهناك يظهر من سيفجر ويغتصب بانتظار جنة، تأتي فيها الريح على النار، أو تتناثر أشلاء الحمائم والبشر، والأم التي تدعو الرب، لأن ينقذ ابناءها المهاجرين وقمر ينقل رسائل، ومعارض ورقصات وأفلام اباحية، أو رجل يضاجع امرأة، “ضابط” قد قضى (أخوه) نحبه بين يديه.: ص 52.
وصغير يضم القطار، ولعب الأطفال وشرطي المرور والاسعاف والاطفاء.. وفي المساء: صفير وحشة المقابر. وامرأة ترمي الحب للديكة، قلت سعيد الحظ زوجها، قال: إنها عزباء لم يبق إلا رجل يجلس بجوار السائق، والباص مشغول من قبل اثنتي عشرة امرأة، وفي العمى حمار يعلم ما لا نعلمه، يدور ورحى المدينة تدور معه. ص: 61.
تقترب قصص (روشيرو) الموجزة، والمكثفة من الاسلوب التكعيبي في الرسم بتشويهها لطبيعة البشر والاشياء في قوالب شكلية عجيبة، وتقترن مع سرد ايقاعي، مجازي، لماح، مقتربا من روح الشعر، ويقلب اللاهوت المطلق، إلى حدث بشري عابر، ونسبي، وينقل الانثروبولوجيا البشرية إلى الطير، والحيوان والشجر والصخر، بمنظومة رؤى وتخيلات تعكس فانتازيا احلامه السردية، ليقيم أعرافا حكائية تدمج الخليقة في جرم واحد، هو الكون والانساب، باختلاق نسق من نماذج تصطفيها مخيلة القاص نفسه.
فترى الزمان والمكان اشبه بدراما خيالية، مادتها الحجم السردي الصغير، بلغة غنائية وملحمة، وتقطيع مونتاجي سينمائي عجائبي!
وتتصدر السياسة الواجهة التقنية، متفاعلة مع مواقف وشخصيات وأحداث “خارجية”، في عالم كوني تخييلي مخيف، يرتكز على أرض موازية لحياتنا الأرضية، التي ابتعتها الحروب، كوارث السياسيين! وحين يحاول القاص استبطان دواخل شخوصه، لتظهر لديه عوالم جحيمية خانقة، في رحلة حافلة بالاستعارات المرعبة، والمذهلة في أسطرة لتاريخ العراق الذي بات أشبه بيوتوبيا مستحيلة! وظف فيها لغة مشفرة ومكثفة وخاطفة. يتابع فيها تحولات الفرد العراقي، في أزمنة التطاحن السياسي!
وتعكس الوقائع الاجتماعية، من غير أدنى محاولة لتشذيب هذه البشاعة، الممزقة للنسيج البشري، فالقاص، يهرب من افتعال قيم اخلاقية (مصطنعة)! ويلجأ إلى ما يمليه عليه السرد ومن وظائف، وأساليب. وكذلك إلى تبني ايديولوجيا خفية الجوهر، ولكنها ظاهرة في نثار التناقضات، والخيبات، والانكسار، وهيمنة العادات البائسة والمتخلفة، الكابحة لمشاريع التحرر، والتحضر المدني، فالبطل في الغالب رغم عتمة المقابر، يرنو إلى ومضات حلمية، تنتصر بعد تهافت الكوابيس الفتاكة، ودوامتها القتالة لتحقق عالما جديدا، يليق بـ (روشيرو) عراق الحضارات، والمدنية المقبلة التي توفر السعادة لأبنائها، ويفوح أريجها في المعمورة كلها، كما فعلت من قبل، هذا ما أضفى الحيوية على الحكايات السريعة بطباع شخوصها المختلفة، أو المتماثلة في تلفظاتها اليومية، في الشارع العراقي وتنوع وجهات نظرها، سواء كانت مواقفها، منفرة، أو جذابة للقارئ، وهي تحفز على الاختيار الصائب، واجتراح حلول راهنة، ومستقبلية لأزمنة كونية تجاذبت أطرافها في بؤرة عراقية مشعة ومنقلبة على ثقوب الضمائر السوداء، بأحقادها، وأطماعها، التي تستنفد طاقتها امام ارادة ابناء الوطن .
* روشيرو مجموعة قصص قصيرة جدا صدرت عام 2017 عن شهريار
البصرة - الرافدين بيروت