زقاق الجمجم.. الإمساك بحافات الحياة الآيلة للاندثار

ثقافة 2021/02/10
...

   مروان ياسين الدليمي
 
في بنية السرد الروائي تبقى الشخصية الروائية تخييلية، مهما كانت مرجعيتها واقعية، ربما لو بحثنا عنها في الهواء الطلق، لن نعثر عليها بتلك الخطوط الحادة، مثلما رسمها المؤلف بسرديته المتخيلة على الورق، وهذا مانجده متجليا بشكل يدعوننا الى الاحساس بقيمة ومتعة العمل الفني في رواية “زقاق الجمجم” للكاتب العراقي بيات مرعي، حيث فاجأنا بشبكة علاقات انسانية استل وهجها من حافات الحياة الآيلة للاندثار عبر متن حكائي مسرود بواقعية تعبيرية، عكس فيها حساسية عالية ازاء بيئة اجتماعية شعبية مشبعة بفطرة حيواتها.
 فأحالنا على عالم ضاج بشخصيات تنتمي في ملامحها الى الواقع في الكثير من تفاصيل تركيبتها، التي أزهرت من وحي مخياله السردي، وبكل الأحوال فهي تعزز من وجهة نظرنا على أنها نماذج روائية، اخترقت التنميط والكلائشية في سماتها الانسانية، لأنها خرجت من مخيلة خصبة نوافذها مشرعة على حقول الكتابة القصصية والمسرحية والسينمائية، اضافة الى ما تختزنه ذاكرته الابداعية بمجساتها الحساسة، من صور مستلة من مشاغبات الحياة، بطابعها المغرق بمحليته الموصلية .
لم يكتف بيات مرعي بشخصية محورية واحدة تستأثر بمركزية الاهتمام السردي، بل لجأ الى خلق مجموعة شخصيات محورية، وأغدق على حضورها فاعلية لافتة، وذلك بانفتاحه على سلطة الواقع بما تضج به من امكانات ثرية، رغم أن مهمته هذه تبدو على قدر كبير من الصعوبة، إذ ليس من السهولة بمكان على الروائي أن يطلق في فضاء السرد عددا كبيرا من الشخصيات، لأن ذلك سيفرض عليه مهمة أن يسير معها وهي تنمو وتتفاعل وتتواجه مع الظروف والمعطيات الى ان تصل النهاية في الحبكة السردية، بيد أن ما يحسب له انه قد توغل عميقا في استبطان دواخلها في اللحظات، التي كانت فيها تواجه منعطفات الحياة، وتتلقى ظلالها الثقيلة في حيز محدود من الفضاء المكاني قابع في أزقة مدينة الموصل القديمة، ومن هنا اكتسبت الشخصيات خاصيتها مثلما كان للمكان تفرده بسلطته المهيمنة في تشكيل نسيجها الانساني، حتى بات من غير الممكن الفصل ما بين الشخصية والمكان: «كانت نساء الزقاق يجهلن حساب الوقت بالساعات، فيحسبن معظم أوقاتهن باستدارة الشمس اليومية المتكئة على اسطح بيوتهن، وتحولات الظل التي ترافق هذه الاستدارة اليومية، لا بل إنهن لا يرضين حتى حساب اعمارهن بدقة، ولم يفطن مطلقا الى انفسهن إلاّ ساعة وقوفهن أمام المرآة».
تأتي هذه الرواية باعتبارها تجربة فنية لا تسعى الى استعادة الماضي بشاعرية نوستاليجية، بقدر ما تشتبك معه بمقاربة سردية عن طريق بناء وهم روائي يخلق في تمثلاته تضادا بينه وبين الواقع، بقصد تخليق عالم تخييلي موازٍ، تتوخى لغته ان تكون مفتوحة على دواخل شخوصه بما تتنهد به من آمال واحلام ورغبات، بينما حياتهم مركونة مع تراكمات الزمن في زقاق الجمجم: « وفي صدر كل منهن حسرة مثيرة للشفقة وإحساس بجمود القلب، رغم حكايات تتقافز بينهن من هنا و من هناك في محاوِلة، لبعث الروح التي باتت مثل خبز يابس يتفتت بين اصابع الزمن».
تتكشف لنا طبقات هذا العالم بملامحه السايكلوجية من خلال ما تختزنه ذاكرة جندي شاب يحاول أن يواجه عتمة الطريق، بينما هو ذاهب في حافلة مدنيّة مع زملائه الجنود من وحدته العسكرية في مدينة الديوانية الى البصرة في اقصى جنوب العراق، فتنطلق الذاكرة من وحشة العتمة نحو أعماق زقاق الجمجم عبر رحلة معبأة بهاجس البحث عن ذات مغيبة، لنقف امام نماذج انسانية تنتمي الى فضاء شعبي، ينزوي بحيواته في ركن قصي من التاريخ المدون للامكنة، تمثل النساء العنصر الرئيس في هذا الكيان، باعتبارهن جزءاً طبيعيا من بنيته كمكان.
إن نساء زقاق الجمجم الخمسة يعشن حياتهن في حيز اجتماعي يفرض عليهن ضغوطاته فينصهرن في مرجل محرماته من غير ان تتاح لهن الفرصة في ان ينلن ما يخبئنه من رغبات في دواخلهن، فتتلاحق الخسائر عليهن برحيل اشقاء وازواج، ليصبحن ارامل تحت وطأة زمن يتقهقر شيئا فشيئا امام فحيح الحروب والاحتلالات الاجنبية للبلاد.انهن نساء واضحات مثل نهار مشمس لا يحملن اسئلة معقدة ازاء الحياة والوجود، ولكن حكاياتهن تماهت مع ازمنة مرتبكة ومربِكة، سطّرت بحكاياتها تاريخ العراق المعاصرعلى ما فيه من قسوة وعنف وفوضى: “أنا لم تتعبني السنين يامهدية ،إنما الذكريات السيئة، لقد حطّ الغراب على شجرة حياتي مرتين، المرة الاولى في عام 1990 عندما رحل الذي لم اتوقع رحيله بهذه السرعة، نتيجة سقوط صاروخ اعمى عليه في غارة طائشة من طائرة حقودة، والمرة الثانية انتن تعرفنها، تعرفن عذاباتي مع أخي عبود الذي جاؤوا به إليّ بعد أن اصابته شظية تائهة افقدته عقله ايام الحرب”.
من ناحية التقنية السردية فإن الصوت السارد للاحداث تموضع في شخصية واحدة، تجسدت في الجندي الشاب الذي لم يمنحه المؤلف اسما معينا، لكنه اضفى عليه اطارا عاما محددا يعكس كنيته المرتبطة بدوره العسكري، باعتباره جنديا منخرطا في الحرب رغما عنه، ومن خلاله تتكشف حيثيات الواقع التاريخي والانساني لشخصيات الرواية، وكان منطقيا أن يكون في موضع السارد العليم، لأن علاقته مع بقية الشخصيات لها مرجعية مكانية واحدة تمتد في الزمن الى اكثر من أربعة عقود عاشها بينهم، منذ أن بدأ وعيه يتشكل في سنوات مراهقته الاولى، لكنه عاد لاكتشاف تلك العلاقة المشيمية من جديد ما إن ابتعد عنها، بعد أن أخذته الحرب الى زمنها الخاص، فكانت عودته بمثابة هروب من قسوة الحرب الى فردوسه المفقود: «استمع الى تلك الاغنيات التي لم تكن لتثير شجوني حينها، وكنت أسميها أغاني العجائز، إلاّ أنني كلما كبرت شعرت بانها تقترب مني وتثير في داخلي اشياء، لم تكن تثيرها من قبل لتستمر احلامي».رغم ان تقنية الرَّوي قد انحسرت بصوت واحد استحوذ بشكل كلي على سرد الاحداث، إلاّ أن المؤلف لم يفته ان يكسر هذه الافقية، فمنح شخصياته مساحة من البوح بين فترة واخرى، كانت تتسلم فيها وظيفة السارد الضمني، بذلك تناوبت على قيادة مسار السرد وجهة نظر الشخصية الساردة الرئيسة الى جانب وجهات نظر بقية الشخصيات، مما اضفى بشكل ما - وإن كان هامشيا - تعددية في التبئير حسب طبيعة الشخصيات ومنظورها ازاء العالم المحيط بها .